هل تعرفون أين تقع مدينة كونغسبرغ وما هي الخصوصية الأساس التي تتميز بها؟ ولماذا نتحدث عنها هنا في هذه الزاوية بالذات بعد أسابيع من انتشار أخبارها حول العالم، ولو لمجرد أنها، وعلى هامش الحرب الروسية على أوكرانيا، كادت أن تشعل في الشمال الشرقي الأوروبي، غير بعيد من الجبهة الروسية – الأوكرانية، حرباً مدمرة ربما كانت ستستحق أكثر من الحرب التي يشنها الزعيم الروسي بوتين على نظام كييف، اسم الحرب العالمية الثالثة، وسنجيب عن هذه الأسئلة تباعاً.
أولاً تقع "كونغسبرغ" على بحر البلطيق بين دول عدة شاءت سخرية التاريخ ألا تكون تابعة لأي منها، بل لدولة تبعد منها مئات عدة من الكيلومترات، أي لروسيا منذ كانت سوفياتية وأطلقت على منفذها هذا على البحر حين استولت عليه اسم "كالينينغراد"، وطبعاً تلك العزلة واحدة من مميزات "كونغسبرغ" لكنها ليست الرئيسة. الرئيسة تعود لقرنين وأكثر من الزمن إلى الوراء، مما يجعلها جديرة بأن نتحدث عنها هنا، وبالتحديد لأنها المدينة التي ولد فيها واحد من أكبر الفلاسفة الألمان على مدى التاريخ، إيمانويل كانط، وصاحب "الثلاثية النقدية" لم يكتف بالولادة في "كونغسبرغ" بل إنه لم يغادرها أبداً طوال حياته، بل تعلم فيها وعلّم وكتب مؤلفاته التي افتتحت إلى جانب مؤلفات مواطنه هيغل، ما يمكننا اعتباره الفلسفة الحديثة.
ولئن كان كثر من مؤرخي الفلسفة يقرنون اسم إيمانويل كانط باسم فيلسوفة القرن الـ 20 حنه آرندت على اعتبار أنها هي الأخرى ولدت في "كونغسبرغ" وتعتبر من مفاخرها، فإن آرندت سرعان ما غادرتها صبية ثم غادرت ألمانيا كلها تحت وطأة الحكم النازي، لتُعرف كفيلسوفة ألمانية – أميركية، على العكس تماماً من إيمانويل كانط الذي بقي "كونغسبرغياً" طوال حياته.
طيف هيروشيما
بل إن حضوره بدأ أكثر أهمية في وقت سابق من هذا الصيف وفي عز اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، حين منعت دولة أستونيا القطارات والشاحنات الروسية التي لا يمكن لـ "كونغسبرغ" أن تعيش من دون وصولها إليها، وذلك لمعاقبة بوتين على ما يقترفه في أوكرانيا، وعلى الفور يومها كشر سيد الكرملين عن أنيابه وأزبد وأرعد وراح الحديث عن حرب نووية تنطلق من "كونغسبرغ" يلوح في الأفق، وعاد عقلاء العالم بذاكرتهم على الفور ليس تماماً إلى هيروشيما وناغازاكي وما اقترفه الأميركيون فيهما قبل ثلاثة أرباع القرن، بل إلى اللحظة التي أسبغ فيها إيمانويل كانط مجداً فلسفياً ما بعده من مجد على تلك المدينة التي كانت وطنه، حين نشر فيها وقبل موته بتسع سنوات أي في العام 1795، كتاباً لم يتوقف المفكرون عن قراءته والتنهد منذ ذلك الحين "نحو سلام دائم: محاولة فلسفية".
صحيح أن الكل يعرفون أن كبار الفلاسفة والمبدعين في العالم لم يتوقفوا منذ فجر الفكر عن مداعبة حلم السلام الدائم بين الشعوب والأمم، لكنهم يعرفون أيضاً أنه ما من نصّ عرف كيف يصوغ مشروعه جاعلاً إياه يبدو وكأنه في متناول اليد كما فعل كانط.
ليس الأول
وطبعاً لم يكن كانط إذاً أول فيلسوف معاصر يصوغ مشروعاً لنشر السلام في العالم، بعيداً من خيالات كبار المفكرين ومدنهم الفاضلة، ومن منطلق القدرة السياسية لعقلاء العالم، إذ كان هناك قبله كثيرون ومنهم الفرنسي كروسيه الذي وضع دراسة حول "فرص ووسائل إقرار سلام عام وحرية التجارة في العالم كله"، والأميركي ويليام بن الذي قصر اهتمامه على أوروبا ووضع بحثاً في "السلام الحاضر والمستقبل في أوروبا"، وشارل رينيه كاستيل الذي اهتم أيضاً بأوروبا في كتابه "مشروع لجعل السلام في أوروبا دائماً"، ثم بخاصة جان جاك روسو الذي من خلال انتقاده لكتاب كاستيل، وضع بدوره مشروعاً للسلام لا يقل أهمية. غير أن كتاب كانط يبقى، كما بالنسبة إلى الفكر بشكل عام، الأهم والأكثر واقعية.
شروط سلبية للسلام
فالحال أن الفيلسوف الألماني، بحسب المفكر المصري الراحل عبدالرحمن بدوي، صاغ كتابه على "هيئة المعاهدات الديبلوماسية"، فجعله يتألف من الأقسام التالية، ست مواد تمهيدية تصوغ الشروط السلبية للسلام، "لا يجوز أن تتضمن أية معاهدة سلام أي بند سري للاحتفاظ بحق استئناف الحرب، ولا يمكن لأية أمة امتلاك دولة مستقلة من طريق الميراث أو التبادل أو الشراء، والجيوش الدائمة يجب أن تزول، ولا يجوز اقتراض ديون وطنية من أجل مصالح خارجية للدولة، ولا يجوز لأية دولة أن تتدخل بالقوة في نظام حكم أية دولة أخرى، وأخيراً لا يجوز لدولة، في حال حرب مع دولة أخرى، أن تقوم بأعمال عدوانية تجعل من المستحيل عودة الثقة بين الدولتين لاحقاً".
هذا بالنسبة إلى ما في الكتاب من تفاصيل تقنية منطقية، أما جوهر الكتاب فيقول إنه بما أن الحال الطبيعية بين الأمم هي حال الحرب لا حال السلام، فمن المؤكد أن القانون هو الذي يوفر الأمن لكل فرد، ويرى كانط أن الدولة هي التعبير القانوني عن المجتمع، ومن هنا فإن أولى واجباتها ضمان السلام الداخلي عبر خلق آلية حقوقية تتلاءم مع غايات المجتمع، بما أن القانون يقوم على فكرة وجود عقد اجتماعي داخلي.
بيد أن كانط يرى في الوقت نفسه أن حال الشعوب تجاه بعضها بعضاً هي هي حال الأفراد داخل الأمم، أي أنها تعيش تحت تهديد دائم بالحرب، ومن هنا فإن على كل أمة أو دولة أن تطالب الأمم الأخرى بأن تدخل معها في شراكة مماثلة لتلك القائمة بين أهل الأمة الواحدة، بمعنى أنه يجب أن يكون هناك اتحاد بين الأمم يتجاوز انقساماتها ويضبط العلاقات في ما بينها.
غير أن كانط يستطرد، منطلقاً من موقفه كفيلسوف، أن هذا كله لن يكون مجدياً إن لم يقم الأمر كله على الأخلاق، إذ بما أن الهدف النهائي للنوع البشري هو هدف أخلاقي، فيتعين في نهاية الأمر جعل السياسة خاضعة للأخلاق.
الحل أخلاقي
ومن هنا يقول كانط "إن مشكلة العلاقات الدولية لا يمكن حلها على الصعيد الحقوقي وحده، بل فقط على الصعيد الأخلاقي، بمعنى أن تحقق فكرة قيام سلام دائم بين الأمم لا يمكن أن يكون سوى غاية وواجب أخلاقي يفرض نفسه على ضمير ووعي أولئك الذين يسيّرون العلاقات التبادلية بين الأمم"، ويخلص إلى القول "ابحثوا أول الأمر عن حكم العقل العملي الخالص وعن عدالة هذا الحكم، وبعد ذلك فقط سيمكنكم أن تصلوا إلى هدفكم الأسمى وهو خير السلام الدائم، وفي شكل تلقائي".
ومن الواضح أن إيمانويل كانط إذ يتوصل إلى هذا الاستنتاج الذي يتماشى تماماً مع فكره الذي عبر عنه في كتبه السابقة كلها، يميز نفسه تماماً عن أصحاب المشاريع السابقين له، فهو في نهاية الأمر يسعى إلى أن يبرهن على أن الغاية السياسية المتمثلة في تحقيق المثل الأعلى، السلام الدائم، لا بد لها من أن تنبع من العقل الأخلاقي.، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كانط وضع هذا الكتاب في زمن كانت فيه الثورة الفرنسية حققت انتصارها حاملة أفكاراً كونية جديدة، وفي وقت أدرك فيه كم أن تلك الثورة في مرحلتها النقية الأولى كانت متماشية مع الفكر الفلسفي كما عبر عنه روسو وفولتير، كما كانت متماشية مع أعراف أخلاقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من أيقظه من سباته؟
ولد كانط العام 1724 كما قلنا في "كونغسبرغ" بروسيا الشرقية - الألمانية في ذلك الحين، وهي المدينة نفسها التي سيموت فيها العام 1804، وتلقى في صباه دراسة دينية صارمة ظلت تطبعه، فدرس لاحقاً في جامعة "كونغسبرغ" حيث تسجل في كلية اللاهوت، فاهتم أكثر بدرس الفلسفة والعلوم الطبيعية، ومنذ العام 1747 تحول إلى التدريس، أولاً لدى الأسر النبيلة مؤدباً لأبنائها ثم في الجامعة، وهو في العام 1755 وضع كتابه العام الأول "التاريخ العام ونظرية السماء"، غير أن غوصه في النظرية النقدية التي طبعت كتبه الأساس لم يبدأ إلا في العام 1770، وخصوصاً بتأثير من روسو وهيوم "اللذين أيقظاني من سباتي" كما كان يحلو له أن يقول.
ولقد أمضى كانط حياته بين التأليف والتدريس، ومن أهم مؤلفاته "نقد العقل العملي" و"أسس ميتافيزيقا الأخلاق" و"نقد ملكة الحكم" و"ما هي الأنوار؟" و"ميتافيزيقا الأخلاق"، وغيرها.