بعد عقود من العمل الفوتوغرافي، ما زالت هدى قساطلي تصور بطاقتها المتدفقة. تعيد اكتشاف الأمكنة، تنبش روحها، وتحفر في ذاكرتها. هكذا تتجاوز "صورتها" حدود الفوتوغرافيا لتغدو تأريخاً معمارياً وسوسيولوجياً وانتروبولوجياً.
تلاحق قساطلي الأمكنة كما يلاحق الظل صاحبه، تشتغل عليها باعتبارها عتبة للوصول إلى الإنسان، وهو ما يصب في جوهر عملها كأكاديمية وباحثة في علوم الفلسفة والانتروبولوجيا، ولعل اهتمامها بالمكان نابع من انتمائها الشخصي إلى مدينتين عريقتين، تاريخاً وعمراناً: بيروت (مدينة الأب) وحلب (مدينة الأم). هذا تحديداً ما نستشفه من معرضيها الجديدين في إيطاليا، وعنوانهما: "بيروت" و"حلب" (حتى الرابع من سبتمبر / أيلول المقبل)، بدعوة من إدارة اورستيادي الإيطالية المهتمة بالتواصل الثقافي في منطقة المتوسط، أدباً وشعراً ورسماً وتصويراً.
وعن هذه المشاركة وأهميتها تحدثت هدى قساطلي لـ"اندبندنت عربية"، فقالت: "هذه المؤسسة مهتمة جداً بالحضارة العربية والفنون والآداب الآتية من هذه المنطقة، وليس غريباً هذا الاهتمام على مدينة مثل سيسيليا المعروفة بثرائها الثقافي وانفتاحها على الآخر. يكفي أن نمشي في أزقتها وأن نزور كنائسها ونتأمل هندستها لنكتشف أنها عبارة عن مزيج من الثقافات والحضارات والتأثيرات. من هنا وجد معرضي مكانه الطبيعي في هذا المكان، وأظن أنه أخذ حقه وسعيدة بمشاركتي فيه".
"بيروت" كارثة بشرية
في مدينة "جيبيلينا" الإيطالية يقام معرض "بيروت"، وهو يحتوي على 44 صورة فوتوغرافية، تعرض معظمها للمرة الأولى، وتسطر تاريخ العاصمة اللبنانية من نهاية الحرب الأهلية إلى ما بعد انفجار الرابع من آب (1990-2022). بين هذين التاريخين تعرضت بيروت لحملة شرسة شوهت وجهها التراثي الجميل، تمثلت في هدم الأبنية التراثية واقتلاع البيوت القديمة وبناء الأبراج العالية.
ومن يتابع مسيرة قساطلي يدرك أنها كانت مع أليس مغبغب (صاحبة الغاليري البيروتي الشهير)، من أوائل المناضلين ضد محو ذاكرتنا الجماعية المشتركة، إيماناً منهما بأن "من دون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان"، على ما يقول محمود درويش.
هكذا ظلت قساطلي متسلحة بعدستها في مواجهة التطاول "الوقح" على الهوية التاريخية والثقافية لمدينة بيروت، فاختارت المكان ليكون معادلاً للحياة والتراث والهوية والانتماء. وهذا ما نقرأه في صور معرضها "بيروت" الموزعة على أربع صالات، بعناوين مختلفة: "إرث، حرب" و"أيقونية الغياب" و"إبهار ودمار" و"أضواء وألوان". تتجاور الصالات الأربع وكأنها فصول من رواية، تتناسل فيها الصور وتتكامل لتشكل في النهاية صورة "المدينة" في مواجهة "الإنسان".
عين قساطلي هي اليد التي تكتب بها، صورها أشبه بسرد فوتوغرافي لحكاية المدينة، أو المكان الأول الذي انتمت إليه. هدى قساطلي عاشت في بيروت، على مقربة من خط التماس الذي فصل بيروت إلى مدينتين: شرقية وغربية.
هناك تعلمت أن الإنسان قد يكون أقسى من الحجر، وأن عنفه قد يضاهي عنف الطبيعة أو ربما يتجاوزها. هذا العنف لا يأتي دوماً على شكل حرب، وإنما أيضاً على شكل "إعمار" تشويهي. ولهذا خسرت بيروت مرتين، في الحرب مرة، وبعد الحرب مرة أخرى، حين فضل القائمون على "نهضتها" القيمة التجارية على القيمة التاريخية. هكذا جاء المستثمرون والمتمولون والمقاولون بعد المسلحين، ليعبثوا بهندسة بيروت وتاريخها وإرثها إلى حد إفراغها من جمالها الأصيل.
وفي اتصال مع منظمة معرضي "بيروت وحلب"، قالت لـ"اندبندنت عربية" إن هذا الحدث الفني هو مهم جداً من الناحية الثقافية والمعنوية والجغرافية أيضاً، باعتبار أنه يقام في مدينة صغيرة اسمها "جيبيلينا" في "سيسيليا" التي كانت مملكة عظيمة اجتمعت فيها ثقفات العالم ولغاتها، وما زالت إلى الآن لغتنا العربية موجودة فيها من خلال بعض التسميات واليافطات، بل إن اسم "جيبيلينا" مأخوذ أيضاً من كلمة "جبل" بالعربية".
ترى مغبغب أن هذه المنطقة هي سفيرة إيطاليا في البحر المتوسط، وتربطها صلات كثيرة مع بلادنا، وهذا ما شجعها للتعاون مع إدارة اورستيادي بعد التواصل معها من أجل تنظيم الحدث. وتضيف: "هذه المنطقة تعرضت للدمار الكلي عقب زلرال لم يترك فيها أثراً للحياة، وبهذا فإنها تشترك مع مدينة بيروت التي دمرتها حرب أهلية بين 1975 حتى 1990، ثم عبث الإنسان بما تبقى من معالمها التراثية قبل أن يدمرها انفجار الرابع من آب (2020)".
وما بين الكارثة الطبيعية والكارثة البشرية، عاش أبناء المنطقتين هجرة واسعة. ومثلما عرف اللبناني باغترابه، شكل أهالي سيسيليا أيضاً أكبر نسب الهجرة في العالم.
حلب خلف الدمار
في مؤسسة سانت إيليا (باليرمو)، تعرض هدى قساطلي 11 صورة فوتوغرافية عن مدينة حلب التقطتها عام 2018 بطلب من الـ"يونيسكو"، تزامناً مع تصويرها فيلمها الوثائقي عن المدينة الشهباء، وعنوانه "بيمارستان أراغون". ومن خلال صورها حكت قساطلي سيرة تلك المدينة السورية العظيمة بإرثها وتراثها، فكيف يمكن الدمار أن ينقل قيمة التاريخ وأصالته؟ وهل يصح الحديث هنا عن جماليات الخراب؟
تجيب قساطلي: "قد أتفاجأ إيجاباً من عين قادرة على رؤية الجمال وسط الخراب، أنا صورت الأبنية التي دمرتها يد الإنسان، في الحرب كما في خطة إعادة الإعمار القائمة على ترسيخ الأبنية التجارية بدلاً من التراثية، ولكن في بعض الصور يمكن أن نرى شيئاً من الضوء النافذ عبر الشبابيك الملونة. بعد كل خراب هناك نهضة، الخراب قد ينتج من الإنسان (كما في بيروت وحلب) أو من الطبيعة (كما في سيسيليا)، ولكن في كلتا الحالتين يجب أن نفكر في كيفية إحداث هذه النهضة، وهذا لن يكون إلا عبر الترميم الذي يحترم قيمة الأبنية التراثية وتاريخها وجماليتها، وهذا ينصب في إطار عملي البحثي أيضاً، وسوف أنشر قريباً بعض الكتب بالتعاون مع منظمة Arc en ciel التي تعنى بالحفاظ على التراث المعماري والحرف التقليدية المهددة بالاندثار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت قساطلي قد أصدرت عام 2020 كتاباً بعنوان "من تراب وأيد بشرية: بناء بيت سوري ذي قبب"، عملت عليه على مدار سنتين تقريباً، وصدر باللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنكليزية. وقد اشتغلت أيضاً بعد انفجار الرابع من آب على ترميم النوافذ في البيوت المتضررة، وانتبهت إلى أن أصحاب البيوت في معظمهم منحازون إلى عودة النوافذ الملونة، ما يعكس تعطشاً إلى البيت التراثي الأصيل الذي يليق بمدننا العربية العريقة. وعملت قساطلي على مشاريع كثيرة في مدن أخرى مثل طرابلس (شمال لبنان) وفي النوبة (جنوب مصر).
مسيرة هدى قساطلي بمجملها، من الصور إلى الكتب والأفلام، هي محاولات إنقاذ مستمرة لهوية مدننا التراثية، وليس عبثاً اختيار عبارة "محاولة إنقاذ" بدلاً من "حفظ" التراث، لأن ما تشهده كثير من مدننا هو تدمير ممنهج لذاكرتها وتاريخها وطابعها التراثي، وبمعنى آخر هو تدمير لتاريخنا وذاكرتنا وهويتنا نحن.