Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا تعني رسائل المنتحرين في مصر؟

متخصصون: محاولة لتمسكهم بطوق نجاة واختيارهم أماكن شهيرة لوم واضح للمجتمع وفقاً لوجهة نظرهم

المنتحر في أغلب الأوقات تكون لديه رسائل يتركها خلفه ليشرح من خلالها موقفه (أ ف ب)

بلغة الأرقام ليست هناك أية طفرة في أعداد المنتحرين بمصر، إذ إن عدد حالات الانتحار خلال العام الماضي بحسب إحصاء لمكتب النائب العام أعلنه مطلع العام وصل إلى 2584، وهو المعدل نفسه الذي تعلنه الجهات الرسمية منذ سنوات، ويتراوح ما بين ألفين إلى 3 آلاف، لكن يبدو أن تناول تلك الحالات على مواقع التواصل الاجتماعي يزيد من حدتها ويعمق أثرها، فيشعر المتابع وكأنها أصبحت ظاهرة، بخاصة أن كثيراً من الحالات تترك خلفها رسائل قبل أن تودع الحياة.

وبدا الحديث عن الانتحار من الأمور المتكررة في الأخبار اليومية، حتى يظن المتابع أن إزهاق النفس تحول إلى قرار سهل في بعض الأحيان، حيث تعددت الحالات سواء كان أصحابها يعانون تعثراً في الامتحانات أو يواجهون أزمات مالية أو مشكلات عاطفية مع الشريك أو أسرية مع الأبوين.

الطبيب هاشم بحري أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر ينوه بأنه إحصائياً لم تزد حالات الانتحار في مصر، لكن تناول تفاصيلها عبر منصات التواصل الاجتماعي هو ما يوحي بذلك، بخاصة أن وقع أنباء الانتحار مؤلم للغاية ومزعج إلى أقصى حد، وهو أمر يتعلق بطبيعة الشعب المصري الذي يقدس الحياة منذ العصور القديمة كما يقدس الموت، وهنا يبدو الأمر صادماً للغاية، ومع ذلك فالانتحار في مصر لم يصل إلى مرحلة الظاهرة كما يحدث في أماكن مختلفة من العالم، مستدركاً "ما حدث فقط هو أنه أصبحت هناك فرصة للغوص في عمق كل حالة وتفاصيلها والتعايش معها".

إحصاءات مربكة

مع ذلك تشكك الدكتورة هالة منصور أستاذة علم الاجتماع في الإحصاءات الرسمية لأعداد المنتحرين في مصر، وتوجه النظر إلى نقطة مهمة وهي أنه "ليس كل الحالات يُبلغ عنها على أنها انتحار، لأن العائلات تجتهد لتخفي أن يكون فقيدها فارق الحياة منتحراً، معتبرين أن هذا الأمر يعيب الأسرة، بالتالي تسجل الوفاة على أنها مجرد حادثة أو حتى وفاة طبيعية، ومن هنا تصبح الإحصاءات غير دقيقة".

ورافق حالات الانتحار في مصر أخيراً عدد من السمات الأساسية، بينها اختيار وسيلة للموت ترتبط بمعلم ما مثل مسجد وجسور وبرج القاهرة ونهر النيل، كما أن المنتحر في أغلب الأوقات تكون لديه رسائل يتركها خلفه ليشرح من خلالها موقفه، وعادة ما يختار السوشيال ميديا لبث تلك الرسائل.

ويرى هاشم بحري أن تلك الرسائل تعني أن من يتخذ مثل هذا القرار يتمسك حتى اللحظات الأخيرة بالأمل بأن ينقذه شخص ما، فيحاول تنبيه من حوله لحالته، قائلاً "بالطبع لتلك الأماكن دلالات، فالمريض النفسي حينما يصل إلى تلك المرحلة يحاول أن يبرز معاناته بكل الطرق، بالتالي فحينما ينهي حياته في معلم شهير يضمن أن تصل أزمته إلى أكبر قدر من الناس، ومن وجهة نظره فهو بهذه الطريقة يبعث برسالة إلى من آذاه مفادها بأنه أخطأ بحقه وأوصله إلى هذه الدرجة من اليأس، فهذه رسالة لوم واضحة للمجتمع وللدائرة المقربة من حوله على إهمالهم لأزمته".

هذا التواتر والتكرار يطرح سؤالاً يتعلق بالوعي المجتمعي والثقافة، هل ما يحدث يحمل نوعاً من "التقليد" نتيجة وجود فراغ معين؟ تقول أستاذة علم الاجتماع هالة منصور إنه بلا شك هناك مجال للتقليد بسبب السوشيال ميديا، مشددة على أن قراراً مثل هذا لا يقدم عليه إلا شخص مصاب بالاكتئاب، فهو إما يكون لديه تاريخ مرضي أو أصيب باكتئاب مفاجئ بسبب عجزه عن التعامل مع موقف معين، فيؤذي ذاته أو ينهي حياته، بالتالي ينبغي الحذر في تناول تفاصيل مثل تلك الحوادث عبر مواقع التواصل الاجتماعي كي لا يستلهم المريض طرقاً معينة ليؤذي نفسه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من ضمن السمات أيضاً لجوء بعض الشخصيات إلى قتل عائلاتها بالكامل ثم الانتحار تحت وطأة ظروف نفسية ومعيشية معينة، ويرى بحري أن السبب الأول للانتحار هو مرض الاكتئاب العقلي، فالمصاب بسبب كوارث وأزمات معينة في مجتمعه وحياته يتحول إلى شخص هش لا يقدر على المواجهة، لافتاً إلى أن هذا المرض يصيب 2 إلى 4 في المئة من السكان في مصر، بالتالي فهناك من 2 إلى 4 ملايين شخص مصابون به حالياً، مما يضخم لديهم الإحساس بالذنب.

المؤسسات الدينية

وفي حين يرى آخرون أن هناك فراغاً كبيراً في ما يتعلق بمرجعية الشباب، بخاصة في ظل تراجع شعبية "الدعاة المودرن" بعد وقوعهم في تصرفات مربكة جعلت كثيرين ينفضون من حولهم، في وقت تحاول المؤسسات الدينية الرسمية تخفيف حدة الأوصاف التي تطلقها على من يعانون مرضاً نفسياً ويفكرون بالتخلص من حياتهم، بعد أن كان خطابها يصدر الفتاوى التكفيرية فقط دون تحليل أو مراعاة لأسباب تلك الأزمة، وهذا التغيير ترجم في بيانات وتدوينات دار الإفتاء المصرية عبر منصاتها الرسمية، وبينها ما نصه "إزهاق النفس البشرية بهذه الكيفية فيه إقدام على كبيرة من أعظم الكبائر، وذلك لأن حفظ النفس مقصد من المقاصد العامة للشريعة التي جاء الإسلام لصيانتها، لذلك حرم الإسلام الاعتداء على النفس البشرية بأي صورة من صور الاعتداء". وشددت على أن الانتحار حرام شرعاً ومن كبائر الذنوب، مؤكدة أن حماية النفس وعدم إزهاق الروح أو حتى إتلاف عضو من أعضاء الجسد أو إفساده هو مطلب شرعي.

وكانت المبادرة الأكثر لفتاً للنظر وحدة الدعم النفسي بالأزهر الشريف، التي استحدثت في سبتمبر (أيلول) العام الماضي، وهو الشهر الذي يشهد الاحتفال باليوم العالمي لمنع الانتحار، حيث تتلقى الوحدة عبر خطها الساخن الاستغاثات من أهالٍ يطلبون الدعم لمساندة أبنائهم الذين يمرون بحالات نفسية سيئة أو من المريض نفسه، وهي تضم متخصصين في الطب النفسي وعلم الاجتماع، وينبه بحري إلى ضرورة أن يكون المتعامل مع مثل تلك الاستغاثات متخصصاً وعلى دراية بالحالة التي يتعامل معها، قائلاً "ما أسهل أن يقول متلقي الاتصال للمتصل أن هذا حلال وهذا حرام، لكن يجب أن يكون المتعاملون مؤهلين وعلى قدر المسؤولية، فالمرض النفسي ليس له علاقة بمدى تدين الشخص، وهي نقطة ينبغي وضعها في الاعتبار".

طبيب واحد لكل 85 ألفاً

الترويج للوعي بأهمية الصحة العقلية بات له أكثر من ملمح في مصر، مثل الترويج لوحدات الدعم النفسي المجانية بالمؤسسات الصحية الرسمية، لكن بحسب تأكيدات بحري فإن الرعاية النفسية لا تزال ضعيفة بسبب قلة أعداد الأطباء النفسيين؛ إذ لا يتجاوزون 1300 طبيب، وهو رقم لا يتواءم أبداً مع عدد السكان الذي يزيد على 100 مليون، ما يعادل طبيب نفسي واحد لكل 85 ألف مواطن، لافتاً إلى أن كثيراً من المتخصصين يفضلون السفر للعمل في الخارج، حيث قرر نحو 800 طبيب الهجرة.

بينما ترى هالة منصور أنه حتى حينما يدرك الشخص أنه بحاجة إلى مساعدة نفسية، فإن كثيراً منهم يواجهون مشكلة في تدبير التكلفة، كما أن بعضهم يتراجع بسبب انتشار ثقافة وصمة المرض النفسي، مشيرة إلى أن فكرة النظرة الدونية لمن يتلقى علاجاً نفسياً لا تتعلق بطبقة معينة، بل تمتد لتشمل طبقات عليا، إضافة إلى أن الخدمة النفسية تكون متدنية في كثير من المراكز، وحتى جودة الأداء لدى كثير من الأطباء المعروفين باتت محل جدل، لأنه من المفترض أن يخضع الطبيب النفسي كل 6 أشهر للعلاج والملاحظة النفسية بسبب الضغوط التي يتعرض لها.

أخيراً إذا كانت أعداد المنتحرين إحصائياً تتراوح ما بين ألفين و3 آلاف، وهو عدد ثابت منذ أعوام، لكن باتت هناك تشابهات رئيسة تشترك فيها تلك الحوادث، بينها رمزية اختيار المكان، وإرسال رسائل الاستغاثة المباشرة وغير المباشرة قبيل الإقدام على تلك الخطوة، وكذلك تزايد الحالات لمن هم في سن الشباب والمراهقة، ما ينبه إلى ضرورة فتح ملف الطب النفسي ونشر الوعي بأهميته، و"التوعية بأخلاقيات المهنة"، والعبارة الأخيرة تأتي من ضمن أهداف الجمعية المصرية للطب النفسي التي تأسست كمنظمة غير هادفة للربح منذ عام 1971.

المزيد من العالم العربي