Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البدّاعات الفلسطينيات يرافقن الحج والأعراس بأغانيهن الشعبية

نضال فخري تجمع هذا التراث لبديع من منابته ا لحمايته من الاندثار

من الاجواء الإحتفالية (من الكتاب)

يقول المثل الشعبي "من نسي قديمه تاه". ولأن فلسطين حالة خاصة فلا بد لها أن تتشبث بتراثها وألا تنساه أبداً، لأنه ماضيها وحاضرها ومستقبلها في الوقت ذاته، وهو ليس تراثاً شفهياً أو أغنيات شعبية فقط، بل هو فن عريق له من الأهمية، أنه يرصد ويوثق تاريخاً وطقوساً هي رمز الهوية الفلسطينية والذاكرة الوجدانية المشتركة. ويبدو جلياً أن التراث الفلسطيني في وضع حرج ودقيق للغاية، لما يعانيه من نهب منذ عقود طويلة، تسانده في ذلك التكنولوجيا الحديثة؛ الـ "دي جي" التي حلت مكانه، مما أدى إلى تغير جذري في شكل الحياة الاجتماعية بما في ذلك العرس الفلسطيني، الأمر الذي خلق فجوة كبيرة بين الماضي والحاضر أدت إلى اضمحلال أنماط كثيرة من هذا التراث، كأغاني الحج والطهور وغيرها التي تلاشت ولم تعد تمارس كما في السابق. فالجدات قد كبرن ونسين، ولن يستطعن تسليمه للأجيال القادمة التي باتت ترفض هي أيضاً استلام هذا الإرث لجهلها البالغ بأهميته وسيكون قد جمع في الكتب فقط وعندها لن يصبح شفاهياً.

ما سبق هو خلاصة ما انتهت إليه دراسة ميدانية أنجزتها الباحثة الفلسطينية نضال فخري، وصدرت حديثاً في كتاب بعنوان "البدّاعة الفلسطينية" في سلسلة "الثقافة الشعبية" (الهيئة المصرية العامة للكتاب). و"البدّاعة"، هي بمثابة شاعرة في قومها، وأسلوبها ارتجالي للمناسبة التي تشارك خلالها بحديثها الثري وأغانيها التراثية. وقد نجحت نضال فخري في جمع تلك المادة الثرية والنادرة، من الجدات وكبار السن من أنحاء مختلفة في فلسطين، لتكون شاهدة على الهوية العربية لهذا البلد.

العرس ومناسبات أخرى  

لذا جاء توقيت هذه الدراسة وهذا الجمع الميداني مع تسجيل حي لصوت الجدات في موعده، وهو - كما تقول نضال فخري - نوع من أنواع النضال تقوم به وزارة الثقافة (الفلسطينية) تمهيداً لحفظ بل وإعادة إحياء هذا الإرث الغالي بطرق مدروسة. يتناول هذا البحث الأغنية الشعبية على لسان من تبقى من البدّاعات الفلسطينيات في القرى الفلسطينية في المواضيع التالية: العرس بكل أركانه بدءاً من التقاء الفتيان والفتيات عند بئر الماء أو العين، الطلبة، الكسوة، الخطبة، الحنة، حمام العريس، الزفة، طلعة العروس، العروس الغريبة، ومواضيع أخرى متفرقة. جاءت  هذه الدراسة على شكل بحث ميداني تضمن زيارات متعددة للمدن الفلسطينية بمساعدة البلديات والمجالس القروية والمراكز النسوية، ولقاءات بمن تبقى على قيد الحياة من البدّاعات الفلسطينيات، وتسجيل وتوثيق لما تجود وتزخر به ألسنتهن. وقد أخذت الزيارات بعين الاعتبار تنوع مواقع القرى الجغرافي في المحافظات الفلسطينية المختلفة. وقد حطت الرحال أولاً في مدينة بيت لحم فكانت الزيارة الأولى للباحثة لثلاث بداعات مسيحيات من بيت ساحور جدن بفيض من الأغاني التراثية ثم انتقلت إلى زعترة، المنيا، عرب الرشايدة، فالخضر.

أما المحطة الثانية فكانت مدينة القدس حيث كانت الزيارة لبلدة السواحرة الشرقية، فقرى العبيدية، بدو، قطنة. وكانت مدينة رام الله المحطة الثالثة، فتمت زيارة قرية كفر مالك، خربة أبو فلاح، وكفر راعي، دير غسانة، سنجل، بيتين، سردا، الجلزون، أبو شخيم. ثم جاءت المحطة الرابعة مدينة جنين، فتمت زيارة قرى جلقموس، قباطية، الفندقومية، الجلمة. والمحطة الخامسة كانت مدينة طولكرم؛ فكانت الزيارة لقرى دير الغصون، علار، وقفين، باقة الغربية. ثم المحطة السادسة التي كانت مدينة قليقيلية وقرى حبلة، جيوس، عزون. والمحطة الأخيرة كانت مدينة خليل الرحمن، فتمت زيارة بلدات سعير ودورا ويطا والظاهرية، وقرى ترقوميا، بيت أولا، دير سامت، صوريف، لينتهي المطاف في قرية الكول.

عوائق واجهت البحث

وقد تم جمع ما جادت به الألسن في ما يزيد على مئتي صفحة، وراعت الباحثة في هذا عدم التكرار. ولاحظت الباحثة العديد من السلبيات خلال رحلة البحث الميداني منها ظاهرة تكرار الأغنية الشعبية، فالتراث الفلسطيني واحد في عموم القرى الفلسطينية، كأغنية "واحنا ذبحنا ع الطريق اذبيحة أو كبشين". لذا فعملية البحث عن تراث غير مكرر هي عملية شاقة تحتاج لمزيد من الوقت والجهد. وقد تضطر للتسجيل لوقت طويل قبل العثور على أغنية غير مكررة. وكان لحلول فصل الشتاء بما حمله من ثلوج وإلاق للشوارع أثر واضح في تعطيل مسيرة البحث الذي بدأ في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2014.

ومن السلبيات كذلك نسيان البدَّاعة لما ستقوله وذلك يعود لعدة أسباب، منها عدم ممارستها للغناء والبدع وجمود فكرها بعد أن حل الـ "دي جي" محلها، كبر سنها، حاجتها إلى مجموعة ترد عليها في وضع يشابه العرس؛ الأمر الذي يزيد حماستها. بكاء أمهات الشهداء والأسرى من البدّاعات الفلسطينيات حسرة ولوعة على فلذات أكبادهن، فما أن يبدأ التسجيل معهن حتى تخونهن دموعهن بشكل يصعب معه إتمام اللقاء، وهكذا تسير الزيارة في اتجاه مخالف لما خطط لها.

 

أجمل ما في الرحلة

أجمل ما في هذه الرحلة، تقول نضال فخري، رائحة خبز الطابون المنبعثة صباحاً، فالبدّاعة الفلسطينية الجدة هي امرأة منتصبة القامة في معظم الأحوال، وأم قائدة في بيتها محركة لكل شؤونه، وهي التي تخبز رغم كبر سنها. وغالباً ما تكون أرملة، ترتسم على وجهها تجاعيد الإرهاق والعمل المضني قبل تجاعيد الزمن. وفوق ذلك يقع عليها عبء القول في الأعراس، فتجود بما لديها من مخزون اكتسبته من ماض عريق، ثم تضيف عليه من ذوقٍ ترسَّخ مع الأيام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتتشابه الأغاني التراثية في فلسطين مع الأغاني في الأقطار العربية في بعض ألوان الغناء كالدلعونا و"ظريف الطول"، و"يمه امويل الهوى". كما تتميز في بعض الأنماط والأغاني عن غيرها كأغنية "وين ع رام الله". وغالباً ما تقوم البداعة بدور القائدة التي تقود الحفل فنجدها تغني فترد عليها النساء في مسار تقابلي، مما يعطي العرس نمطاً منظماً في كل مراحله، وقد تكون هناك أكثر من بدّاعة فيتناوبن قيادة الحفل بما يضفي عليه جواً جمالياً شديد التميز.

لكن الجدات اللواتي كن يحفظن هذا التراث ولا يزلن على قيد الحياة نسينه بسبب عدة عوامل؛ منها عامل الزمن وعامل الـ "دي جي". وهكذا اختفت أغاني الحج والطهور والنجاح واستقبال العائد من السفر وغيرها. وربما لم يتبق من هذا التراث غير بعض طقوس ليلة الحناء وعلى الأغلب غير المغناة. وبما أن البداعة لم تعد تغني فترد عليها النسوة، فهي تغني وحدها في البيت تخاف أن تزعج الجيل الجديد الذي لا يشعر بانتمائه للقديم، مفضلاً موسيقى اليوم التي لا تحمل أي قيمة، مما يخلق فجوة بين الأجيال يصعب مع الأيام ردمها.   

وأخيراً، فإن هذه الدراسة جمعت ما تيسر من تراث البدّاعات، وحولته من شفاهي إلى مكتوب، بغرض حمايته من الاندثار، لكن يبقى من المهم كما توصي الباحثة بتسجيله على أسطوانات للمحافظة على ألحانه التي لا تقل عن نظمه من حيث أنه وليد مواهب فطرية، ورثتها أجيال متتالية، على مر السنين.    

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات