تنفتح المرحلة المقبلة في مستقبل السودان السياسي على سيناريوهات عديدة، وهي بطبيعة الحال ستمثل اختباراً لصراع إرادات يخوضه طرفان أساسيان؛ المجلس العسكري والانتقالي من ناحية، وقوى إعلان الحرية والتغيير من ناحية أخرى، إلى جانب العديد من القوى السياسية الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعثر التسوية بين المجلس وقوى الحرية والتغيير بعد أن أوشك الطرفان على تسوية هياكل السلطات الانتقالية الثلاثة بدا اليوم أكثر بعداً بعد فض الاعتصام، وأقرب انفتاحاً على أزمات عديدة منها؛ ضعف الثقة الذي بدا واضحاً بين الطرفين؛ ما أدى إلى اللجوء لمبادرة خارجية تمثلت في الوساطة التي قادها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، مسنوداً من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، إلى جانب قوى دولية أخرى كالولايات المتحدة الأميركية التي عينت مبعوثاً خاصاً للسودان للمساهمة في الأزمة بين طرفي النزاع، هو الدبلوماسي "دونالد بوث".
تضارب الآراء التي رشحت عن المجلس العسكري، كما عن قوى الحرية والتغيير، حول ترتيبات وروايات مختلفة بينهما عن المبادرة الإثيوبية، عكست اضطراباً عاماً للمراقبين، كما عكست تحركات المجلس العسكري أخيراً نياتٍ واضحةً للتلويح بالمضي قدماً في ترتيبات تريد أن تتجاوز قوى إعلان الحرية والتغيير إلى قوى أخرى في الساحة السودانية، بحثاً عن تشكيل حكومة تسيير أعمال، وطرح سيناريو انتخابات مبكرة خلال 9 أشهر.
بيد أن انسداد مسرح اللاعبين السياسيين مع مناورات المجلس العسكري (حال تجاوزه قوى الحرية والتغيير) لا يسمح للمجلس بهامش كبير في خياراته. فمن ناحية؛ إذ تتكون قوى الحرية والتغيير من 5 تحالفات كبرى، تنطوي تحتها أكثر من 100 كيان حزبي ونقابي ومنظمات مجتمع مدني؛ سيكون تجاوز هذه القوى التي هي محل ثقة الشعب (كما دلت تجربة العصيان المدني التي استجاب لها غالبية واضحة من الشعب السوداني) مصدر اهتزاز، وعنصر عدم استقرار كبير في المرحلة المقبلة، وذلك فيما لو قرر المجلس العسكري الانتقالي الإصرار على تكوين حكومة تسيير أعمال من القوى الحزبية القديمة، وهي القوى التي شاركت في الحكومات المتعاقبة على مدى ثلاثين سنة لنظام الإنقاذ.
من ناحية أخرى، ستكون حظوظ المجلس العسكري ضعيفة، حال تكوينه منفرداً لحكومة تسيير أعمال من قوى غير قوى إعلان الحرية والتغيير، لأن ضغوط المجتمع الدولي التي لوّحت بها الولايات المتحدة والأمم المتحدة، والاتحادين الأوروبي والأفريقي ستكون معيقة للمجلس، سواء في الاعتراف به كسلطة أمر واقع، أو عدم إسقاط العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي منذ أكثر من 25 عاماً؛ كإدراج السودان تحت قائمة الدول الراعية للإرهاب، والحصار الاقتصادي، إلى جانب تعليق الاتحاد الأفريقي لعضوية السودان بعد قرب انتهاء الفترة التي أمهلها الاتحاد للمجلس العسكري الانتقالي.
لقد كشفت الأيام السابقة بعد فض اعتصام القيادة العامة وما قبلها كذلك، عن حقائق لا تخطئها العين؛ حيث بدا واضحاً أن قوى إعلان الحرية والتغيير هي القوى التي فوضها أغلب السودانيين لقيادة الثورة منذ انطلاقها في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018، كما فوضها، بعد نجاح الثورة في الإطاحة بالبشير يوم 11 أبريل (نيسان) وحتى حين آلت السلطة إلى المجلس العسكري الانتقالي بقيادة عبد الفتاح البرهان.
كان المجلس العسكري منذ أيامه الأولى يناور على تسليم السلطة للمدنيين، وتقرر ذلك في الاعتراف الواضح الذي أبداه المجلس بقوى الحرية والتغيير كطرف وحيد للتفاوض معه حول تسليم السلطة.
بعد واقعة فض اعتصام القيادة العامة والعصيان المدني الذي نفذته قوى إعلان الحرية والتغيير (كان ناجحاً بنسبة 85 في المائة) تأكد المجلس العسكري الانتقالي من حقيقة تفويض الشعب السوداني في غالبيته لقوى إعلان الحرية والتغيير في تشكيل الحكومة المدنية.
كما انتزعت الطرائق السلمية لثورة السودانيين طوال 5 أشهر أمام نظام الإنقاذ إعجاب العالم، وعكست أصداءها الطيبة مردوداً حميداً وثقة كبيرة من العالم في المعارضة التي قادت تلك الثورة السلمية. ولاسيما بعد فض اعتصام القيادة العامة الذي تعاطف مع ضحاياه معظم الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي حول العالم.
هكذا إذاً، ستبدو سيناريوهات المرحلة المقبلة كما لو أنها انسداد نسقي، في حال انفرد المجلس العسكري الانتقالي بتكوين حكومة تسيير أعمال من قوى سياسية أخرى، لأن استئناف العمل الثوري الذي سيقوده تجمع المهنيين وقوى إعلان الحرية والتغيير سيكون مصدر قلق وعدم استقرار طوال المرحلة المقبلة.
انسداد الأفق الذي ستشهده المرحلة المقبلة (إذا ما افترق الطرفان عن توحيد جهودهما حيال الشراكة في إقامة سلطة انتقالية) سينفتح على سيناريوهات أخرى محتملة؛ ذكرها نائب وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية "تيبور ناج" حين لمّح إلى احتمال مصائر متعددة للوضع في السودان؛ منها مصيرٌ مشابهٌ للوضع في ليبيا ومفتوح على الاحتراب الأهلي، أو إعادة إنتاج للنظام القديم، وهذا أيضاً سيكون مصدر قلق وعدم استقرار، أو انفراد المجلس العسكري بتكوين حكومة تصريف أعمال من القوى الحزبية القديمة، فيما سيكون السيناريو الأكثر نجاحاً في تقديرات "تيبور ناج" هو تسليم المجلس العسكري الانتقالي مقاليد السلطة لقوى إعلان الحرية والتغيير للخروج من مأزق المرحلة الانتقالية بسلام، وصولاً إلى الانتخابات بعد ثلاثة أعوام، بحسب اتفاق كل من المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير قبل حادثة فض اعتصام القيادة.
لا يخلو المستقبل السياسي القريب للسودان من هذه الاحتمالات الأربعة، وستتكشف الأيام المقبلة بالضرورة عما يفضي إليه أحد تلك السيناريوهات.