لم يستسغ مؤرخ ومنظر السينما التعبيرية الألمانية البارز سيغفريد كراكور فيلم السينمائي والتر ريتمان المؤسس بشكل أو بآخر للسينما الوثائقية في ألمانيا "برلين سيمفونية المدينة الكبرى" وتحدث عنه بشيء من الامتعاض في كتابه الأشهر "من كاليغاري إلى هتلر" لمجرد أن المخرج سيتعامل عند بدايات ثلاثينيات القرن العشرين مع السينمائية النازية ليني ريفشتهال، وفي المقابل وجد المؤرخ السينمائي الفرنسي الكبير جورج سادول فضائل كثيرة للفيلم نفسه ولكن لمجرد أن مخرجه أعلن دائماً أنه ينتمي إلى نظريات الروسي دزيغا فرتوف بالنسبة إلى أسلوب "السينما - العين" الذي راج كثيراً في السينما السوفياتية كما في السينمات التقدمية في العالم أجمع. وفي الحالين كما نلاحظ أتى التعامل مع فيلم ريتمان من خارجه، أي ليس مما يحمله من تجديدات على الصعيد الإبداعي. مع أنه يحمل كثيراً منها بل لعله من أوائل الشرائط السينمائية التي عرفت، وبشكل مبكر، كيف تتعامل مع بعدين أساسيين من أبعاد العلاقة بين السينما والتحليل النفسي الجماعي من ناحية، ومفهوم ولادة المدينة الحديثة من ناحية أخرى. ولا شك أن هذا الأمر ينبغي أن يكون أول ما يلفت نظر الباحثين الجديين في هذا الفيلم.
ولادات حداثة ما...
فالحقيقة أن "سيمفونية المدينة الكبرى" إذ حقق في عام 1927 عرف تماماً كيف يستفيد من ذينك العنصرين اللذين ولدا على أية حال مع السينما في وقت واحد تقريباً ليرافقا مسيرتها طوال القرن العشرين وبعده. فالبطولة هنا معقودة للمدينة نفسها، برلين التي كانت قد شهدت منذ بدايات القرن نهضة هائلة حولتها إلى ما يمكننا تسميته "مدينة العالم" بكل ما يحمله هذا التعبير من قوة وتناقض، ليأتي الفيلم معبراً عن هذا في متابعة حياة المدينة خلال يوم بكامله يمتد 20 ساعة تقع ذات يوم بين ساعات الفجر الأولى ومنتصف الليل، أما التعمق في السيكولوجية الجماعية لأهل المدينة في علاقاتها معهم وبشكل أكثر وضوحاً مع الوافدين إليها من الأرياف منذ الفجر ليبارحوها آخر الليل كما اعتادوا أن يفعلوا يومياً، فيأتي بخاصة من خلال تلك التقابلات التي يكتفي الفيلم بتصويرها من دون تعليق حواري، عبر مشاهد لعل الأساسي منها التقابل بين الريف والمدينة من خلال "الغزوة" التي يقوم بها الريفيون إذ يصلون إليها في قطارات الفجر عند بدء يوم العمل والحياة العادية في مدينة يشاركونها حياتها اليومية، ناهيك بمشهد تالٍ سيبدو أكثر فصاحة على أية حال وهو يتكرر بين الحين والآخر: مشهد جمهرة من ناس يجتازون الشوارع والساحات راكضين كالآلات تتقاطع مع مشاهد قطعان من الأغنام تسير بدورها على غير هدى من دون أن تدري أو ندري ما إذا كانت ذاهبة لتذبح أو لترعى.
صياد يطارد فريسته
لقد قال ريتمان في هذه المشاهد جزءاً أساسياً من خطابه تاركاً الصورة تتحدث عنه بل تلخص البعد الأيديولوجي الذي أراد قوله، لكن الفيلم، من نواحٍ أخرى، تجاوز هذا الخطاب ومن بعيد. ولعل في إمكاننا توضيح هذا من خلال ما سيقوله ريتمان عن فيلمه "أنا منذ جئت إلى العمل السينمائي وبي رغبة في صياغة عمل ما انطلاقاً من تلك المادة الحية التي أرصدها يومياً، أي أن أصنع فيلماً يتكون من الحياة كما هي في مدينة كبرى. وحين التقيت الكاتب كارل فرويند وجدت أنه هو الآخر يحمل الفكرة نفسها. وهكذا رحنا هو وأنا وطوال أربعة أسابيع نلتقي عند كل فجر منذ الساعة الرابعة لنلتقط مشاهد للمدينة وهي بعد تغط في سباتها، أي للمدينة خلال (موتها) اليومي. ولكم يبدو غريباً لي اليوم كم أن برلين راحت تفلت من محاولاتي رصد حياتها وإيقاعها عند تلك الساعات المبكرة. لقد كان يتملكني بصورة دائمة حماس وحمى الصياد وهو يطارد فريسة لا يعرف أصلاً ما إذا كانت موجودة. في اختصار كانت تلك المشاهد الليلية أصعب ما صورناه مع أن المصور كونتز لجأ إلى شرائط بالغة الحساسية كي يعفينا من اللجوء إلى استخدام الإضاءة الصناعية". وكانت النتيجة أن المشاهد الليلية تعادلت قوة مع المشاهد النهارية حتى وإن بدت هذه أكثر ديناميكية بدءاً من مشاهد القطارات تدخل المحطات مفرغة آلاف الركاب إلى ازدحام الشوارع والمكاتب والمصانع بالبشر.
حماس جورج سادول
ومن الواضح في هذا السياق أن المخرج وكاتبي السيناريو كارل فرويند وكارل ماير والموسيقي إدوارد ميزيل اشتغلوا على هذا الفيلم خلال التوليف وما بعده بأكثر كثيراً مما اشتغلوا خلال التصوير ليطلع "برلين، سيمفونية المدينة الكبرى" واحداً من الأفلام – المدرسة بالنسبة إلى تلك العلاقة التي كثيراً ما تحدث عنها دزيغا فرتوف، بين العين التي ترى وتلتقط عبر الكاميرا، والأيدي التي تشتغل على التوليف مسبغة معاني جديدة قد لا تكون في الحسبان عند التقاط المشاهد. ولعل هذا ما جعل الناقد جورج سادول يكتب عن الفيلم، قبل أن يغوص لاحقاً في مرحلته الستالينية "في الوقت الذي كانت فيه الرقابات -ويقصد في موسكو طبعاً، ولكن في غيرها أيضاً- من تمرير أفلام فرتوف المغرقة في نضاليتها، يأتي فيلم ريتمان الناجح إلى حد كبير لينشر في العالم أجمع نظريات فرتوف وبشكل عملي". ومن المؤكد أن جزءاً كبيراً من النجاح الذي حققه فيلم "ريتمان" يعود ليس فقط إلى بنية الفيلم وأسلوبه المتقدمين جداً ولا حتى إلى توليفه البالغ الذكاء، ولكن كذلك انطلاقاً من أن مفهوم المدينة كان يشغل أذهان المفكرين والأدباء والفنانين في ذلك الحين، ليس كمفهوم عمراني جمالي وحسب، كما ستقول أدبيات جماعة البوهاوس، وصولاً إلى والتر بنجامين ولا سيما في اشتغاله على حداثة باريس، بل كمفهوم فكري أتت الحرب العالمية الأولى لتعيد خلقه من جديد مستبعدة الأرياف وفكرانيتها نحو أماكن موغلة في متحفيتها. ومن الممكن لنا هنا أن نعطي على سبيل المثال لوحة أوتو ديكس الكبرى والأساسية "المدينة الكبيرة" التي رسمها في الوقت نفسه الذي كان فيه ريتمان ورفاقه يصورون فيلمهم البرليني.
دينامية لا تهدأ
لكن الفارق الكبير بين لوحة ديكس وفيلم ريتمان يكمن في الديناميكية التي استطاعت صور الفيلم أن تعبر عنها. فالحال أننا هنا أمام الشاشة في مواجهة صور ومشاهد تتحرك بصورة متواصلة، كما لو أن الفيلم يريد أن يكرر في كل دقيقة أو حتى ثانية من زمنه، ومن دون أن تكون ثمة إسنادات مرجعية تتعلق بأحياء المدينة وتقسيماتها، على كون المدينة باتت تضبط حركة الناس وتنقلهم من مكان إلى آخر من دون حتى أن يبحثوا عن وجهتهم أو يبدو عليهم أنهم يحاولون أن يكتشفوا وجهتهم. فهم هنا، والكاميرا ناهيك بالتوليف تصور هذا بروعة بل حتى بروتينية تكاد تكون اتهامية، يتحركون بعفوية تستجيب لإيقاع يتكرر في وقت لا تتوقف فيه كاميرا ريتمان عن التقاط تحركات العناصر العمرانية من ستائر معدنية تفتح وتغلق وحركة عبور في شوارع كانت تزحم بالعربات والحافلات وبدأت تزحم بالسيارات تزاحم مارة لا يعبؤون بها، بل إن الأمر يصل بالفيلم إلى نوع من مقابلة بين صفوف العمال يقومون بأعمالهم في المصانع مع صفوف الراقصات في الكباريهات الليلية وهن يؤدين رقصاتهن بالطريقة الآلية نفسها التي تكاد تكون خالية من الأنوثة خلو صفوف العمال من أية أبعاد إنسانية، ولنلاحظ هنا كيف أن تشارلي تشابلن ربما يكون استوحى بعض مشاهد المصنع في فيلمه "الأزمنة الحديثة" من بعض ما قد يمكن أن يكون رصده في هذا الفيلم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حمى السينمائية النازية
وبقي أن نذكر أخيراً أن والتر ريتمان (1887 – 1941) كان واحداً من قلة من المبدعين لم تقصد تلك المنافي العديدة التي قصدها معظم المبدعين الألمان الكبار هرباً من هتلر ونازييه، ومن هنا، ومن دون أن يكون ريتمان نازياً، حل عليه سخط كثر من زملائه التقدميين فكان من ضمن ذلك موقف سيغفريد كراكور السلبي منه ولا سيما حين راح ريتمان يتعامل مع ليني ريفنشتال وفي الأقل في الجوانب الفنية من إنجازاتها التي لن يخفي هتلر إعجابه بها واعتبارها المثال "الأسطع على العبقرية الإبداعية الألمانية".