تطرق المرشد الإيراني علي خامنئي خلال أقل من شهر إلى أمور يمكن أن نقول إنها تشغل باله هذه الأيام أكثر من غيرها ولم تفارقه للحظة، وذلك خلال كلمة ألقاها بمناسبة ذكرى وفاة الخميني يوم الرابع من يونيو (حزيران) الماضي، وتحدث عما وصفها بـ "مؤامرتين يعدها الأعداء، الجزء الأول لهذه الخطة يتمثل في الآمال التي يعلقها الأعداء على الاحتجاجات الشعبية لضرب البلاد والتي تتم من خلال النشاط السايكولوجي في الفضاء المجازي، وبالمال والمرتزقة وجميع أنواع الحيل يسعون إلى وضع الناس أمام النظام الإيراني".
وأضاف، "كان الخبثاء يقولون في أوائل الثورة إن الثورة ستسقط خلال ستة أشهر، وبعد أن تبين خطأ حساباتهم كانوا يعدون بستة أشهر أخرى، فيما انقضى حتى اليوم ثمانون "ستة أشهر" على عمر الثورة وتحولت تلك الشتلة الفتية إلى شجرة سميكة وقوية، وأصبحت حساباتهم خاطئة تماماً كالماضي".
ويشير خامنئي هنا إلى التظاهرات والاحتجاجات التي شارك فيها المعلمون والمتقاعدون والعمال وفئات اجتماعية أخرى خلال الأشهر الماضية، خصوصاً بعد انخفاض وتيرة جائحة كورونا في إيران، والتي عمت معظم المحافظات والمدن الإيرانية والمستمرة حتى لحظة كتابة هذه المقالة.
صحيح أنه خلال الأعوام الأولى للثورة كان الملكيون الفاقدون للسلطة يبثون الدعايات العارية من الصحة عن احتمال سقوط النظام الإيراني خلال أشهر، غير أن العارفين بوضع المجتمع الإيراني آنذاك، وعلى الرغم من معارضتهم له، لم يعيروا وزناً لتلك "الدعاية الواهمة"، إذ كان النظام يتمتع وتحت قيادة الخميني "الكارزمية" بقاعدة شعبية واسعة، غير أن تلك الشعبية تآكلت عاماً بعد عام إثر ما قامت به السلطة الدينية من قمع دام لشخصيات وأحزاب سياسية ومجموعات إثنية، وتقييد ليس للحريات السياسية وحسب، بل والاجتماعية أيضاً، ناهيك عن حرب الثماني سنوات مع العراق التي أثقلت كاهل المواطن الإيراني.
وعلى الرغم من ذلك لم نشاهد حركات جماهيرية معارضة واسعة ما دام الخميني حياً، وفي عهد خليفته علي خامنئي الذي يفتقد إلى كاريزما سلفه أخذت الأمور منحى آخر بسبب الفساد المستشري وسوء الإدارة وإسراف بيت المال في مجال المشاريع النووية والصاروخية ومساعدة الجماعات التابعة للنظام في دول المنطقة، وقد زادت العقوبات الأميركية والأوروبية الطين بلة.
نقطة انعطاف
تمكّن خامنئي مع أجهزته الأمنية من السيطرة على الوضع بعد الاحتجاجات والتظاهرات المليونية عام 2009 والتي اندلعت إثر اتهام المرشد الأعلى وجماعته بتزوير الانتخابات الرئاسية لمصلحة محمود أحمدي نجاد، واعتقال المرشحين الآخرين مير حسين موسوي ومهدي كروبي، كما أن آمال الإيرانيين وعلى الرغم من كل ما شهدته البلاد من اعتقالات واغتيالات لم تخب، وحاولوا وفقاً للمثل العربي "لاحق العيار لباب الدار" أن يعملوا على إصلاح الوضع من داخل النظام السياسي الحاكم، ومن أجل ذلك شاركوا بنسبة مقبولة في انتخاب حسن روحاني رئيساً للبلاد خلال فترتين، لكن أوضاعهم المعيشية لم تتحسن، مما أدى إلى اندلاع تظاهرات واسعة في أواخر العام 2017 وأوائل العام 2018، شملت عدداً من المحافظات والمدن وردد المتظاهرون خلالها هتافات الموت لروحاني والموت لخامنئي، وأخرى تقول "لا للإصلاحيين ولا للأصوليين"، وبذلك أعلنت الجماهير في شوارع إيران وحاراتها تجاوز مرحلة الإصلاح من داخل النظام إلى ضرورة الإصلاح والتغيير من خارجه، وتكررت الهتافات في انتفاضة نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 التي شملت نحو 135 مدينة في إيران وراح ضحيتها 1500 متظاهر. وعندما خطط خامنئي ومستشاروه الأمنيون أن يخرج إبراهيم رئيسي من صناديق الاقتراع انخفضت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية في العام 2021 إلى أدنى مستوياتها منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران، وقد أوقف انتشار جائحة كورونا حراك الجماهير الإيرانية المسحوقة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، لكن بعد انحسار الجائحة شاهدنا استئناف الحراك وحضور الجماهير الجائعة والعطشى في شوارع المدن المختلفة، وكان لإقليم عربستان الدور الطليعي في انتفاضتي 2017 و2019 وما بعدهما. يمكن القول إن النظام يشهد حال ضعف من الداخل، وستستمر هذه الحال ما دام يصدر النفط بأساليب ملتوية ويواجه الحراك الجماهيري بالحديد والنار.
الزلزال الأمني وقلق خامنئي
في الـ 21 من يونيو الماضي أشار المرشد الإيراني في كلمة له أمام جموع من القبائل والعشائر الإيرانية إلى ما وصفها بـ "الحرب الناعمة" التي تشن على نظامه، و"جهود الأجانب لتحريك العشائر على مدى القرنين أو القرون الثلاثة الماضية لتفتيت إيران وإثارة الحرب الأهلية"، ويعني خامنئي هنا بالعشائر القوميات غير الفارسية التي تناضل من أجل حقوقها القومية والتاريخية، وهو بذلك يريد إثارة الخوف في قلوب أبناء القومية الفارسية المهيمنة من حراك الشعوب غير الفارسية، لكن في الحقيقة أن الذي يهدد البلاد بالتفتيت ليس هذه الشعوب التي تعايشت لقرون وحتى قبل 90 عاماً في إطار اتحادي تقليدي كان يطلق عليه نظام "الممالك المحروسة"، بل تعنت السلطة الحاكمة التي تفرض بالقوة لغة واحدة وثقافة واحدة على بلد متعدد القوميات والإثنيات، فبعد محاولاته بث الذعر بين الشعب الفارسي حول الخطر المزعوم من عودة الملكية لإيران، يحاول خامنئي بهذه التصريحات أن يزرع الريبة والفتنة بين الشعب الفارسي من جهة والشعوب غير الفارسية من جهة أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي كلمته أمام القضاة في الـ 28 من يونيو انتقد السلطة القضائية مطالباً إياها بمواجهة المعارضين والمنتقدين لنظامه، لا سيما في الفضاء الافتراضي، مؤكداً أن "الله" الذي "ساعدنا في الحرب مع العراق وقمع الأعداء وأعاد الأمن عام 1981"، سيساعدنا في ذلك عام 2022، وهو يقصد بإعادة الأمن عام 1981 القمع الدامي الذي تعرضت له القوى المعارضة التي شاركت في إسقاط نظام الشاه، وكانت تعمل بشكل علني آنذاك، مثل منظمة "مجاهدي خلق" والأحزاب والقوى اليسارية والديمقراطية.
ويستخدم خامنئي كلمة "الله" لأغراض سياسية محضة، وإلا فمعظم الإيرانيين الذين عاشوا تلك الفترة يعلمون أن هناك فرقاً بين ما كان يتمتع به النظام من قاعدة شعبية عام 1981 ساعدته في تخطي تلك المشكلات وقمع خصومه السياسيين، وبين الوضع الراهن وفقدانه تلك القاعدة الشعبية الواسعة.
لكن الأحداث الأهم خلال الأيام القليلة الماضية هي أولاً إقالة حسين طائب الرجل القوي وقائد منظمة الاستخبارات التابعة للحرس الثوري التي قلصت نفوذ وزارة الاستخبارات لأسباب سياسية وجناحية، وثانياً إقالة الجنرال إبراهيم جباري قائد فيلق ولي الأمر الذي يتكون من 20 ألف عنصر والمكلف قانونياً بحماية المرشد الأعلى علي خامنئي وبيته ومؤسساته، وثالثاً اعتقال علي نصيري قائد "فيلق أنصار المهدي" المكلف بحماية المسؤولين الكبار في إيران بتهمة التجسس لمصلحة إسرائيل.
لا شك في أن هناك اختراقاً أمنياً تقوم به الدول المعادية بل وحتى الصديقة لإيران مثل روسيا، عبر مفاصل الدولة وخصوصاً المؤسسات العسكرية والأمنية، لكن هذا الاختراق ليس وليد اليوم والأمس، بل يعود في الأساس للأيام الأولى للثورة وانهيار النظام الشاهنشاهي وانحلال مؤسساته الأمنية القوية مثل جهاز "السافاك" وما شابه ذلك، لذا يمكننا القول إن ما سرّع هذه الاعتقالات والتنحيات التي توصف بـ "الزلزال الأمني" في إيران، هو تصاعد وتيرة الاحتجاجات والتظاهرات التي تشهدها البلاد يومياً في معظم المحافظات والمدن الإيرانية، فكل هذا التذمر الشعبي ينعكس على منظومة السلطة ويؤدي إلى تصدعها ويثير النزاعات بين أجزائها التي تبدو للمشاهد الخارجي وكأنها منسجمة، ويبدو أنه كلما تطور النضال الشعبي واتسعت جغرافيته شهدنا مزيداً من الانقسامات والصراعات بين "رفاق الأمس"، وأعني بالنضال الشعبي "ما تقوم به الفئات المتضررة من النظام الاستبدادي، مثل الشعوب غير الفارسية والعمال والفلاحين والمعلمين والمتقاعدين والنساء وغيرهم من الطبقات الوسطى والمسحوقة"، فكل هذا يثير القلق لدى المرشد الأعلى الذي يسيطر على مفاصل السلطة والثروة في البلاد، ويتمتع باليد العليا في النظام، ولا يخضع لأية محاسبة أو رقابة قانونية أو شعبية، فإذا تحول هذا القلق إلى خوف في المستقبل فسيساعد في تطوير عملية النضال الجماهيري في إيران، وستكون له تداعيات مصيرية على النظام كله.