يحار المرء في تدبر الخصوصية التي تنطوي عليها الحضارة الصينية ويختبرها الاجتماع الصيني، لا سيما حين يتبين له أن الحكمة الروحية الناشبة في أعمق أعماق الوعي الصيني تعارض ما انتهت إليه الأنظومة السياسية والاقتصادية الصينية في الزمن الحاضر. إذا تأمل الإنسان في مآلات التاريخ الصيني، أدرك أنه يبعث على الاستغراب لشدة التناقضات التي تحتشد في تضاعيفه. لذلك ما برحت هذه الحضارة العريقة في قدمها والفريدة في استمراريتها التاريخية تستقطب اعتناء الباحثين الغربيين الذين يسعون إلى استجلاء مقامها واستكشاف خصوصيتها.
يصر الفيلسوف الفرنسي فرانسوا جوليان (1951-....) على استخراج المتباينات الحضارية بين الغرب الأوروبي والشرق الآسيوي حتى يتسنى للجميع الاغتناء بالإسهامات الغنية التي تنطوي عليها الحضارات الإنسانية المختلفة. جمع جليان في فكره وأعماله بين الثقافتين الهلينية والصينية، فجاء تخصصه الفلسفي شديد الإتقان في الإلمام الدقيق بلطائف الاختلافات الناشطة بين العالمين. ذلك بأنه درس اللغة والحضارة الصينيتين في جامعة بكين وجامعة شانغهاي (1975-1977)، وأدار مرقب الدراسات الصينية في هونغ كونغ (1985-1987). وكان في هذه الأثناء يعد العدة من أجل أطروحتين في فكر الشرق- الأقصى (1987-1983).
اضطلع بمسؤوليات جليلة أهلته لنشر الفلسفة الصينية والخصوصية الحضارية التي ينطوي عليها الاجتماع الصيني. فكان رئيس الرابطة الفرنسية المعنية بالدراسات الصينية (1988-1990)، ومدير قسم دراسات آسيا الشرقية في جامعة باريس-ديدرو (1990-2000)، ومدير معهد الفكر المعاصر في الجامعة عينها. أما أبرز مسؤولياته الأكاديمية، فاضطلع بها حين جرى تعيينه في كرسي دراسات الغيرية، وهو المركز البحثي المنبثق من مركز بيت علوم الإنسان الفرنسي.
بين مقولة الكينونة ومقولة العيش
يذهب جوليان إلى أن الانطلاق من الاختلاف سبيل واعد في نطاق دراسات الحضارات المقارنة. فالفواصل بين الناس المنتسبين إلى ثقافات مختلفة تحث الفكر على استجلاء ضروب التقارب الممكن. من الخلاصات الواعدة التي استخرجها من معايناته الدقيقة نظرية التقابل بين مقولة العيش الدفاق الآسيوية ومقولة الكينونة المتحققة الإغريقية الأوروبية. في كتابه "من الكينونة إلى العيش: معجم أوروبي-صيني في الفكر" (De l’Être au vivre. Lexique euro-chinois de la pensée)، يستحدث مفهوماً مبتكراً في الوجود يختلف عن تناولات الوجودية، إذ يفسر تفسيراً جديداً ما ينتاب الحياة من حميميات ومشهديات وخوارق تعاكس ما تعودته الأذهان من توافقية في مسار الاختبارات.
استناداً إلى مقولة الفواصل الواعدة، يتناول جوليان التباينات الناشطة بين الحضارات، فيبين أن الاستعانة بمقولة الهوية والاختلاف لا تساعدنا في إدراك خصائص التمايز التكاملي. ذلك بأن الاختلاف يستخرج من الهوية الذاتية، فيجعل الثقافات الإنسانية الأخرى خاضعة لمنطق الذات الحاكمة، عاجزة عن استثارة الدهشة الخلاصية في وعي الناس المختلفين، مقيدة بسلاسل التكرار الممل الذي يغلق الحوار ويبطله. بخلاف هذا كله، تتيح لنا مقولة الفواصل الناشبة بين الحضارات أن نستيقظ ونتأهب لمعاينة الآخر في غيريته التي لا تنفصل عني إلا على قدر ما تشاركني تشاركاً توترياً في إنتاج الجديد الإنساني الملهم. عوضاً عن طلب الكونية الصاهرة المؤلفة من كليات مختبرة جامدة، ينبغي أن نسعى إلى الكوني الانفتاحي المشرع على مقتضيات اختبارية ما برحت في طور الإنضاج المطرد. ومن ثم، يبسط جليان طبيعة التباينات الناشطة بين الحضارة الأوروبية والحضارة الصينية في حقول بحثية أربعة.
الحقل الأول: الاختلاف في الماورائيات
يعالج الحقل الأول المسألة الميتافيزيائية الماورائية اللاهوتية. ومن ثم، فإنه يتحرى مفهوم الله، أو بالأحرى مفهوم الحق الذي بنته الحضارة الغربية على فكرة الله أو المطلق الإلهي. في كتابه الأخير "موسى أو الصين. حين لا تنبسط فكرة الله "(Moïse ou la Chine. Quand ne se déploie pas l’idée de Dieu)، يعتبر أن هذه الفكرة أنشأت الغرب كله، حضارياً وثقافياً وأنثروبولوجياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. أما في الصين، فلم "تنبسط" هذه الفكرة على النحو عينه، إذ لم تستقطب اعتناء الوعي الصيني. إذا كان الله في الغرب قد كف، بحسب جوليان، عن تفسير قوام العالم وتسويغ معناه، أفلا يجدر بنا أن نستكشف معاني الطاو (Tao) المنغل انغلالاً سرياً في ثنايا الكون والطبيعة والكائنات؟ ذلك بأن الديانات الصينية الثلاث، الطاوية والبوذية والكونفوشيوسية، تعتمد الطاو مبدأً أصلياً ناشباً في عمق الكائنات يضمن للكون كله التوازن والانسجام والانتظام العادل الهادئ.
الحقل الثاني: الاختلاف في تدبر النفس الإنسانية
يرتبط الحقل الثاني بقضايا النظر في النفس الإنسانية أو في الباطن الإنساني المنحجب الذي تبحث فيه علوم النفس. في هذا الميدان، يوصي جوليان باعتماد مبدأ الصبر على تحولات النفس، كما هي الحال في شأن إدارة شؤون الحياة. تتطلب مثل هذه الفضيلة أن يميز المرء الكلام من القول الناطق، على نحو ما يشير إليه في كتابه "لو يستقيم الكلام من غير القول" (Si parler va sans dire). لا شك في أن هذا التمييز يقترن بقرار تفضيل الفكر التلميحي الإيحائي الخفر الذي لا يفرض مقولاته فرضاً إكراهياً على الآخرين، بل يستثير فيهم طاقات النهوض الإرادي، والعلاج الشخصي، واستئناف النمو الذاتي المتزن الإيقاع. من التوجهات الإرشادية التي استخرجها جوليان من صميم الخصوصية الحضارية الصينية نصيحة التأهبية الاستعدادية في الاضطلاع بكل طارئ وجودي، والتناورية الفطنة والتوسطية الاستدراكية في تدبر قضايا الحياة ومشاكلها وتحدياتها.
الحقل الثالث: الاختلاف في مفهوم الإدارة
أما الحقل الثالث، فيتعلق بمسائل الإدارة، إذ يعتني جوليان أيضاً باستجلاء وجوه الاختلاف في إدراك معاني الفعالية. ينطوي كتابه "بحث في الفعالية" (Traité de l’efficacité) على مقاربة جريئة تستصفي أبرز العناصر التي تطبع التصور العملاني الصيني. ومن ثم، فإنه يعمد أولاً إلى التذكير بأن إدارة الأعمال وتدبير الشؤون وصون المصالح تصورات بناها الغرب الأوروبي على ثلاث مقولات أساسية: خطة العمل، استنباط النماذج الاستباقية، فرض التغيير الآني المباشر. يقابل المقولات الإنجازية المبنية على تطويع القدرة التخطيطية الفاعلة وتطويرها وتعزيزها ثلاث توجهات إرشادية يعتصم بها العقل الصيني في تدبر الفعل الإنجازي: عوضاً عن خطة العمل، يلجأ الصينيون إلى مفهوم الطاقة المنبعثة من الوضع القائم؛ بدلاً عن النمذجة الاستباقية، يؤثرون إنضاج الأحوال المواتية إنضاج التأني والصبر والروية؛ خلافاً لخطة افتعال التغيير الآني المباشر، يفضلون التحول الصامت الخفر المتواضع الذي يؤتي ثمار التغيير في سياق روحية التأمل الفاعل.
الحقل الرابع: الاختلاف في تدبر مقام الفن
يتناول جوليان في الحقل الرابع والأخير مسألة الفن، فيعيد النظر في المسلمات الغربية التي نشأت عليها "مذاهب الحسن"، بحسب عبارة الباحث اللبناني شربل داغر، أو فلسفات الفن أو علوم الجمال. فإذا به يتأمل في صفة المألوف المبتذل (fadeur)، أي الأداء العادي المطروق، السخيف، المهجور، المنطفئ، الفاقد الرونق، الخفيف البضاعة. يستدل في الفن الصيني على الأغتم الذي لا يفصح شيئاً، والتفه الذي لا يطلق رونقاً بارزاً، والمعلوم الذي لا طعم له، الخامد الفكرة، المعروف الأغراض، البليد المضمون، الكليل الإيحاء، العقيم الإيماء، المنزوف المادة، الباهت البيان، القاصر الوشي، الفارغ الاقتراح. إنها، لعمري، معاني الصفة الجمالية التي يعاينها جليان في الفن الصيني ويمتدحها في كتابه "مديح الابتذال المألوف"(Éloge de la fadeur). وعلاوةً على ذلك، يغيب العري عن هذا الفن، في حين ينتشر انتشاراً كثيفاً في أعمال الفنانين الغربيين. ذلك بأن العري قيمة جمالية غربية تنبئ بتصور أنثروبولوجي راسخ الدلالة في سياق الحضارة الغربية.
ومن ثم، فإن خصوصية الجماليات الصينية تنعقد على طلب الصورة الأرحب التي لا شكل لها يقيدها، والاندفاعة الإبداعية التي لا تعرف الإنجاز الإغلاقي الخاتم، والتصوير المائل الذي لا يجسد المضمون إلا بواسطة التلميح غير المباشر، كأن "نرسم الغيوم حتى نستدعي القمر"، والتماسك الدلالي الذي لا يمسك بالمعنى، بل يجعل العمل الفني قابلاً للتحقق والإثمار في غير هيئة الإبلاغ المضموني، واعتماد التلميح عوضاً عن الرمز، واللجوء إلى الشرود التملصي بدلاً عن الإسناد التعييني الواضح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا شك في أن جوليان ينحت جميع المقولات المبتكرة الجديدة هذه حتى يظهر فرادة الخصوصية الحضارية الصينية. فنراه يعاند المألوف، ويتمرد على المعتمد، ويناهض الشائع في التفكير المنطقي الغربي لكي يبين لنا أن التناول الفكري الصيني يتميز بتحسس خاص وتذوق مرتبط باختباراته الوجودية الأساسية. لا ريب في أن التعددية الثقافية أضحت اليوم الأفق المعرفي الأساسي الذي تنسلك فيه اختبارات التلاقي بين الأمم. لذلك ينصحنا جليان بأن نعمد إلى التفكير في المساحات البينية التي تفصل الأنظومات الثقافية بعضها عن بعض فكراً وتعبيراً ولغةً. لا بد، والحال هذه، من أن نتناول الخصوصية الحضارية الصينية بحد ذاتها، لا بالاستناد إلى مقولات التعريف السائدة في الفكر الغربي.
بيد أن هذا التناول لا يعني أن نبتهج بالغيرية الصينية من غير مساءلة نقدية. ذلك بأن الواقع الصيني الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي الراهن ينطوي على عناصر مربكة تتطلب النظر المتفحص والمناقشة الجريئة. ليس للفرد الصيني، في قرائن الانتظام الاجتماعي والسياسي السائد، من مقام ذاتي حر. وليس للمجال العمومي من منظورية شفافة تتيح مساءلة المسلمات النظرية التي تبنى عليها سياسات تدبر موارد الأرض والسماء. ومن ثم، فإن الباحث يجوز له أن يستفسر دلالات التشابه الواضح بين انعدام المساءلة في الروحية الطاوية الصوفية، وغياب المناقشة العلنية في الفضاء الصيني العمومي، حتى قبل الثورة الثقافية وهيمنة نظام الحزب الواحد. ثمة مساءلات أخرى تستطلع علاقة الإنسان الصيني بالطبيعة وبالحيوان وبالفضاء الأعلى. وهذا كله ينطوي على إرباكات خطيرة لا يجوز أن تخلب ألباب المستشرقين الصينيين فحسب، بل ينبغي أن تستثير فيهم رغبة المباحثة النقدية الموضوعية الصادقة.