في مفارقة من العيار الثقيل، مر خبر وفاة الكاتب المصري خليل حنا تادرس خلال الأسبوع الماضي، بهدوء لا يناسب الضجة التي كانت ملازمة لإنتاجه الأدبي الغريز طوال نصف قرن، واجه خلاله أحكاماً قضائية بمصادرة أعماله وتحريم تداولها. توفي الراحل عن 83 سنة، عقب صراع طويل مع أمراض الشيخوخة، تاركاً خلفه إنتاجاً أدبياً متنوعاً تجاوز 150 كتاباً، وضم روايات وترجمات أنجزها الراحل لأعمال عالمية قام بتمصيرها وتلخيصها، إضافة إلى كتب أعدها في التنمية البشرية.
المفارقة الأكثر فداحة أن تادرس الذي كان من أوائل الكتاب الذين مهدوا لظاهرة "الأدب الأكثر مبيعاً" خلال سبعينيات القرن الماضي، لم يثر خبر موته الاهتمام في زمن قراء "البيست سيلر".
أدب جماهيري
بدأ تادرس حياته الأدبية منذ عام 1958، ثم ظهرت أولى مجموعاته القصصية تحت عنوان "شيطان الحب"، وتوالت بعدها أعماله الأدبية محققة أعلى المبيعات، وتولت بعض دور النشر اللبنانية طباعتها والترويج لها بصورة ساعدته على ترك وظيفته الحكومية والتفرغ تماماً للأدب، وهي ظاهرة نادرة بين كتاب مصر.
وتعد روايته "نشوى والحب" هي الأشهر من بين تلك الأعمال بفضل جرأة موضوعها وبساطة تناولها لقضية حرية الجسد عبر تتبع مسيرة فتاة أرادت العيش بتحرر بعد أن هجرت عائلتها، كاشفة عن ألعابها الإروتيكية الأولى مع جنيناتي فيللا الأسرة، وكذلك عشاقها وأزواجها المتعاقبين. وبينما تسقط في الحضيض بفضل سلوكها، تصاب قبل نهاية الرواية باحتراق قاتل في حادث سيارة، لكنها تتوب على سريرها في المستشفى وتلفظ أنفاسها وهي ترجو الغفران. وقد أعيدت طباعة هذه الرواية الفريدة بجوها مرات عديدة.
خارج السياق العام
في حين نالت أعمال تادرس انتشاراً واسعاً، وتخطت أرقام توزيعها ما تحقق لأعمال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس، فإنها لم تحظ في المقابل بدراسة جادة، شأنها شأن أغلب الكتابات التي يصنفها النقاد في إطار"الأدب الجماهيري"، لذلك ظلت خارج السياق العام للأدب المصري الخارج من العباءة المحفوظية.
يلاحظ الناقد الأدبي رضا عطية أن هذا النوع من الأدب عانى من "استعلاء نقدي" وتم تهميشه في الدراسات الجامعية العربية، كما لم يقرأ من زاوية دراسات التلقي أو "علم اجتماع الأدب".
أما سامية محرز أستاذة الأدب المقارن في الجامعة الأميركية في القاهرة، فترى أن هذا الاستبعاد "متوقع" في ظل غياب البيانات والأرقام الإحصائية التي تعين الباحث في الوصول إلى مؤشرات حقيقية لتقصي الظاهرة. وتشير في هذا الصدد إلى ما قام به الناقد الإيطالي فرانكو موريتي في الأطلس الذي يقدمه عن الأدب الأوروبي، معتمداً على مؤشرات واضحة بشأن حركة الأدب وسوق الكتاب هناك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تؤكد صاحبة "أطلس القاهرة الأدبي"، أن الأدب الخفيف أولى بالبحث والدراسة لأنه أكثر تأثيراً على الناس في ظل نجاحه الجماهيري. وتضيف، "علينا مواجهة رغبتنا في إغلاق المجال الأدبي على فئة من المبدعين، وأن نراجع أنفسنا كذلك ونتساءل: لماذا ينجح هؤلاء ويعجز غيرهم عن الوصول للناس؟".
تشير محرز إلى بعض الدراسات الغربية التي قرأت هذا النوع الأدبي، وأبرزها الدراسة التي أعدها المستعرب الفرنسي ريشار جاكمون حول الحقل الاجتماعي للأدب في مصر المعاصرة، وقد ترجمها بشير السباعي (دار المستقبل العربي، 2004). يشير جاكمون في هذه الدراسة إلى أن كتابات تادرس تناسلت من كتابات أخرى تغذت على تقديم ترجمات غير دقيقة لبعض الأعمال الأدبية العالمية بعد تلخيصها، لأن العرف الاجتماعي ونظام الرقابة يحولان دون تطور أدب إروتيكي أو بورنوغرافي حقيقي محلي، لذلك ظهر أدب إروتيكي مزعوم يصنفه في إطار يسميه " الأدب الخفيف".
ويعزز عطية الذي كان من بين المقربين من الكاتب الراحل، هذا الاستنتاج، لافتاً إلى أن ثقافة تادرس الواسعة قادته إلى ترجمة أعمال شائعة لالبرتو مورافيا و نابوكوف، ثم بدأ مشروعاً اعتمد على الاعتناء بما يرغبه جمهور القراء، سواء في الموضوعات الاجتماعية، أو كتابة الأدب البوليسي تلبية لطلب الناشرين.
وصفة مضمونة
جاكمون الذي عاش في مصر لسنوات طويلة انتبه إلى أن تادرس كان ضمن فئة قليلة جداً من الكتاب، تعيش من عائد كتبها، ما يشير إلى ارتفاع عوائدها المالية. كما أنه ظل ينشر بنفسه غالبية أعماله ويختار بنفسه صور أغلفتها التي كانت دافعاً مهما ًلشرائها، كما كان يحدد سعراً منخفضاً لها، بحيث لا يصرف اهتمام المشتري المحتمل، فضلاً عن الأثر الذي تركته العبارات التي كان يضعها على الغلاف الخلفي، وكانت تكشف تماماً عن وصفته التي لم تتغير في تحفيز القراء.
وحسب جاكمون، فقد كان تادرس من أوائل الكتاب الذين سعوا إلى خلق علاقة مباشرة مع القراء، إذ كان يضع عنوانه البريدي على أغلفة كتبه سعياً لعلاقة وثيقة مع القراء، وأغلبهم من الفئة التي كانت تقرأ أشعار نزار قباني، وهو جمهور اليافعين والمراهقين والمراهقات. ويكشف المستعرب الفرنسي عن ضوابط وضعها خليل حنا تادرس داخل أدبه أضفت عليه مشروعية، "حيث كانت الأخلاق تخرج ناجية دائماً، فلا تعارض عنده بين المحظور والتذكير بالقاعدة الأخلاقية".
يقول ريشار جاكمون في دراسته الرائدة، "عرف تادرس أن قاعدة هذا النوع الأدبي تتمثل في أن الانتهاك الذي تمارسه لكي ينتج أثره المتوقع لدى القارىء، ولكي يكون مفهوماً، يجب أن يحمل في طياته التذكير بالعرف الإجتماعي". وما يؤكد ذلك أن الراحل ألح في حوارات قليلة أجراها عن أعماله الأدبية مؤكداً أنها "تعتني بالجانب التربوي فيها"، وعد أدبه "أخلاقياً".
ويوضح رضا عطية أن صاحب "نشوى والحب" بدأ متأثراً بكتابات إحسان عبد القدوس، وعده دائماً أستاذه الأول الذي قاده إلى تناول الموضوع الاجتماعي بجرأة. لكن تادرس سعى في المقابل إلى زيادة جرعة الإروتيكا لأنه وفد من الهامش، بالتالي كان أكثر تحرراً من الروابط التي قيدت أدب عبد القدوس.
صعود وهبوط
يشير الخط البياني لظاهرة خليل حنا تادرس في الأدب المصري إلى أن صعودها الجارف ارتبط بالظروف التي تولدت عن نكسة يونيو (حزيران) في عام 1967، وأوجدت عديداً من صور التمرد على الخط الرسمي والنزعة "الأبوية" التي مثلتها السلطة الناصرية.
وإضافة إلى التمردات الطلابية والسياسية التي أعقبت الهزيمة العسكرية، فقد تفشت ظواهر اجتماعية وأدبية وفنية، شملت ظهور عديد من الفرق الغنائية الشبابية غير الرسمية، فضلاً عن موجة من الغناء الشعبي التي قادها المطرب أحمد عدوية. وفي السياق ذاته عرفت السينما المصرية موجة من الأفلام تحررت إلى حد كبير من ضغوط الرقابة على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
وفي حقل الأدب كذلك عرف الجمهور أسماء مثل إسماعيل ولي الدين ومحمود عبد الرازق عفيفي ونبيل خالد، اتسمت كتاباتها بالبساطة وربما بالتسطيح، لكنها لبت النزعة الاستهلاكية التي تفشت في المجتمع في ظل سنوات "الانفتاح الاقتصادي". وتغيرت الحال في التسعينيات حين تراجع حضور هؤلاء المؤلفين الذين كانوا نجوماً لظاهرة "الأدب الخفيف" لأسباب مختلفة، منها قيام الدولة بتمويل سلسلة من الكتب الشعبية في "المشروع القومي للقراءة" و"مكتبة الأسرة"، وبفضل تمكن جمهور القراء من التواصل مع الأدب القادم من الخط العام.
ولبّت سلاسل شعبية أخرى مثل "المستقبل" و "عبير" وأدب الألغاز والمغامرين حاجات القراء الجدد الذين ولدوا في عصر الإنترنت والبث الفضائي.
ومما تلاحظه سامية محرز أن السنوات الأخيرة شهدت تحولات مهمة في سوق الطلب على الأدب، أظهرت عودة واسعة لقراءة الأدب الواقعي وخفوت النزعات التجريبية. كما أن عوام الأدب والترجمة تغيرت وخلقت موجات أخرى من الرواج تتغير باستمرار. كما أسهمت الجوائز الأدبية وانفتاح القراء على أنواع متعددة، في خلق سوق رائجة لم تجعل القراءة عملاً شاقاً كما كانت من قبل.