تأخرت الرواية أياماً طويلة، تبريراً لما حصل في جلسة الرئيسين الروسي والفرنسي، فلاديمير بوتين وإيمانويل ماكرون، في إحدى قاعات قصر الكرملين.
قبل تعميمها ساد انطباع أن اللقاء بين الرجلين لم يكن على ما يرام، وأن بوتين تقصّد التعامل مع ماكرون على هذا النحو بسبب التوتر في أوكرانيا، وانسجامه على الرغم من بعض التمايز مع موقفي الولايات المتحدة والحلف الأطلسي. وهو زاد في تهميشه للقاء على طاولة طولها أربعة أمتار، لاعتباره أن الرئيس الفرنسي لا يمثل شيئاً ذي قيمة، وأنه يوظف حركته الخارجية لتقوية مواقعه في انتخابات الرئاسة الفرنسية المقبلة، وحتى في هذه الناحية فشل فشلاً ذريعاً، حيث تم طرد بلاده من مالي في أفريقيا لتحل روسيا محلها.
كل ذلك قالته وسائل إعلام عالمية وروسية قبل أن تصدر الرواية التبريرية الأخيرة: رفض ماكرون إجراء فحص كورونا لدى وصوله إلى موسكو فقرر بوتين الابتعاد عنه طبياً… عملاً بتدابير منظمة الصحة العالمية!
منعت الجائحة لقاء الناس ومنهم القادة والرؤساء ردحاً طويلاً من الزمن، فلجأوا إلى محاورات من بعد ما أسهم في تطوير تكنولوجيا الاتصال. لكن سرعان ما عادت الاتصالات المباشرة مع التزام التدابير الاحتياطية المعروفة، فعقدت قمم والتأمت الجمعية العامة للأمم المتحدة واجتمع مجلس الأمن مرات عدة، وانخرط المسؤولون في حملات سياسية وانتخابية ومنهم ماكرون الذي سار في شوارع بلاده وحضر في تظاهرات بيروت إثر تفجير المرفأ، وبدا للحظات أن زمن الوباء قد ولّى.
لا يمكن الاكتفاء بالتفسيرات الطبية الوقائية لحادثة الكرملين مهما كانت هذه التفسيرات مدروسة ومُحاكة بحرفية. هناك تقصّد واضح من الجهة الروسية في القول للفرنسيين والأوروبيين إن البحث الجدي يجري مع الأميركيين وأنتم لا تفعلون سوى دعمهم في ما يرونه ويفعلونه.
وما جلسة التباعد سوى رسالة واضحة المضمون والعنوان، خصوصاً أنه بعد ثلاثة أيام كان بوتين يجلس متقارباً مع صديقه رئيس كازاخستان الذي لم يُعرف ما إذا كان أجرى اختبار الـ"PCR" لدى ولوجه مطار شيريميتيڤا!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يكن استقبال ماكرون وحده المميز في غرابته بين استقبالات بوتين. ودائماً ما تكون للتقييمات السياسية انطلاقاً من مصالح موسكو دورها في تحديد شكل الاستقبال وطريقة إدارته. في فرنسا أمضى بوتين يوماً منزلياً عامراً مع صديقه ماكرون يوماً ما، أما برودة موسكو فكان لها ما يفسرها، لا في الطقس ولا في كورونا.
ينطبق ذلك على استقبال الرئيس الروسي لنظيره الإيراني إبراهيم رئيسي قبل أسابيع قليلة. لم يكن بوتين مهتماً، وذهب الإعلام الرسمي الإيراني إلى حد اتهامه بتعمد "إهانة" رئيسي، بدءاً من الجلوس المتباعد إلى طاولة ماكرون(!)
مروراً بالعلكة، وصولاً إلى مغادرة الضيف الإيراني من دون مودعين. قد يكون السبب تخوف موسكو من تطبيع إيراني أميركي، أو عدم رضاها عن المنافسة الإيرانية لها في سوريا أو الاثنين معاً، وربما حسابات أخرى. والحقيقة أن هذا واقع العلاقات الروسية الإيرانية منذ ثورة الخميني. لا ثقة تامة وإنما التقاء في نقاط محددة.
قبل رئيسي فعلها بوتين مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. في مطلع مارس (آذار) 2020، كان التوتر بين البلدين بلغ ذروةً جديدة. القصف الروسي في إدلب أوقع 36 عسكرياً تركياً، أردوغان ينتقد ضم القرم ويغازل أوكرانيا، ويتعاون مع أذربيجان في خاصرة الروس القوقازية.
جاء الرئيس التركي إلى حليفه اللدود في الكرملين فوقف منتظراً مضيفه إلى أن تعب فاختار كرسياً ليستريح بانتظار القيصر. وعندما ظهر بوتين اختار للقاء قاعة الإمبراطورة إيكاترينا المليئة برموز الانتصار على العثمانيين، بما في ذلك في القرم وعكا وصيدا وبيروت (سبعينيات القرن الثامن عشر). كانت طريقة الاستقبال طعنة للعثمانية الجديدة التي يطمح أردوغان إلى إحيائها.
ربما يكون بوتين مهد لذلك الاستقبال "التاريخي" لنظيره التركي، نظراً لتعلق الأمر بسوريا، بزيارته قبل شهرين إلى قاعدة بلاده في حميميم قرب اللاذقية، حيث تفقد قواته وسار أمام الرئيس بشار الأسد مانعاً إياه من السير إلى جانبه في مشهد خلاصته أن الأمر لي .
شاهد السوريون ما جرى، لكن الأسد كان راضياً فتم استقباله في العام التالي سبتمبر (أيلول)2021 بحفاوة في الكرملين، حيث كان وزير الخارجية الإسرائيلي يائير ليبيد يجلس مرتاحاً قبل قليل من الوقت.
يُعيد بوتين إلى الذاكرة في أسلوب ضيافته نمطاً سوفياتياً لا يمكن نسيانه.
وبوتين نفسه حريص على التذكير بماضيه السوفياتي وأسفه على زوال تلك الدولة بوصفه أكبر كارثة استراتيجية في القرن العشرين.
تخرّج الرئيس الروسي من تلك الدولة ضابط مخابرات، فعرف قوتها وأشكال ترجمة تلك القوة، بما في ذلك العلاقات مع مسؤولي الدول الأخرى.
كان في العشرين من عمره عندما جاء الرئيس حافظ الأسد للقاء بريجنيف زعيم الاتحاد السوفياتي في الكرملين (1972). انتظر الأسد 7 دقائق في قاعة إيكاترينا، ولم يظهر بريجنيف لسبب ما. قال الأسد لوزيره عبد الحليم خدام فلننسحب! وأقنعه خدام بالبقاء ثم جاء الكسي كوسيغين وقال للرئيس السوري، "إن مغادرة الوفد لموسكو بمثل هذا التحدي لن يبدو سوء فهم، بل سيكون قراراً سياسياً... عليكم أن تفكروا وتوازنوا كل العواقب المحتملة".
بقي الأسد وتم اللقاء مع بريجنيف، ولاحقاً قال الأسد لخدام حسب ما يروي السفير السوفياتي السابق فاسيلي كولوتوشا وكان حاضراً "تصور ما الذي كان يمكن أن يحدث لو أننا بالفعل غادرنا إلى دمشق". يومها أجرى السوفيات امتحاناً لحليف لاحق سيقدم لهم أول قاعدة على البحر المتوسط1981 !
الأسلوب السوفياتي نفسه مع ضيوفه، يتبعه بوتين في عالم متغير يفتقد إلى انقسام القطبين الذي ساد ما يقارب القرن.