مع بداية عام 2022، بدأت النتائج الاقتصادية القطاعية لسنة 2021 في تونس تظهر وتُنشر. وأفصحت وكالة النهوض بالصناعة والتجديد (حكومية) عن مؤشرات الاستثمارات الصناعية المصرَح بها لدى هذه الوكالة للسنة الماضية.
وفي قاموس عالم الاستثمار، فإن الاستثمارات المُصرَح بها تعني أن المستثمر تقدَم إلى المؤسسات المعنية وصرح لديها بالوثائق والتراخيص لإنجاز مشروعه، سواء كان ذلك في شكل إنجاز مشروع جديد أو توسعة وحدته القائمة.
وتراجعت الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي في تونس خلال عام 2021 بنسبة 25.8 في المئة، لتسجل تراجعاً قياسياً يعكس الوضعية الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد في ظل الوضع السياسي الذي يتسم بالضبابية. ما جعل المستثمرين التونسيين والأجانب يترددون في الإقدام على إنجاز المشاريع.
ووفق المؤشرات الإحصائية التي أفصحت عنها وكالة النهوض بالصناعة والتجديد، فقد بلغت قيمة نيات الاستثمار المصرح بها لدى مصالح الوكالة خلال السنة الماضية 2539.7 مليون دينار (875.7 مليون دولار) مقابل 3422.5 مليون دينار (1180 مليون دولار) في 2020.
وبلغ عدد المشاريع المصرح بها 3331 مشروعاً في 2021 مقابل 4480 مشروعاً في 2020، بتراجع بنسبة 25.6 في المئة. ما أدى إلى تراجع عدد فرص العمل المزمع توفيرها إلى 49576 فرصة في عام 2021 مقابل 60647 فرصة في 2020 بتراجع بنسبة 18.3 في المئة.
منحى تنازلي للقطاعات
وشمل المنحى التنازلي للاستثمارات المصرح بها في الصناعة تقريباً فروع القطاع كلها باستثناء قطاعي الصناعات الغذائية والصناعات الكيماوية.
يُذكر أنه لتحويل نيات الاستثمار إلى استثمارات حقيقية ومشاريع فعلية يستوجب فترة لا تقل عن سنتين بعد استيفاء الإجراءات الإدارية والقانونية.
ونمت الاستثمارات المصرح بها في الصناعات الغذائية خلال 2021 بنسبة 26 في المئة لتبلغ 948.2 مليون دينار (326.9 مليون دولار). وتطورت النيات الاستثمارية في مجال الصناعات الكيماوية بنسبة 14.5 في المئة لتسجل مستوى 301.9 مليون دينار (104 ملايين دولار) في 2021 مقابل 263.6 مليون دينار (90.8 مليون دولار) في 2020.
في المقابل، سجلت الاستثمارات المصرح بها لدى وكالة النهوض بالصناعة والتجديد في ميدان صناعة مواد البناء والخزف والبلور أعلى نسبة تراجع بـ72.8 في المئة لتبلغ قيمتها 123 مليون دينار (42.4 مليون دولار) في 2021 مقابل 452 مليون دينار (155.8 مليون دولار) في 2020. ما يعكس الأزمة التي يعرفها قطاع البناء في تونس وما يعانيه من إشكاليات هيكلية عمقتها الجوانب القانونية المتشعبة وعزوف المقاولين عن بناء وحدات سكنية جديدة بسبب عدم ارتفاع الكلفة وعدم إقرار إجراءات مهمة لدفع القطاع.
وسجلت نيات الاستثمار في الصناعات الميكانيكية والكهربائية تراجعاً لافتاً تجاوز 47 في المئة، ليبلغ 647.8 مليون دينار (223.3 مليون دولار) في 2021، مقابل 1237.9 مليون دينار (426.8 مليون دولار) في 2020. وتسبب ذلك بصعوبات يعرفها القطاع المرتبط بصنّاع القرار في الدول الأوروبية التي تشهد بدورها إشكاليات بفعل أزمة "كوفيد-19" من جهة وعدم توفر بعض قطع الغيار من الدول الآسيوية مع تراجع الطلب العالمي على السيارات.
وفي سياق متصل، عرفت الاستثمارات المصرح بها في قطاع النسيج والملابس الجاهزة تقهقراً بنسبة 21.5 في المئة لتبلغ قيمتها 126.4 مليون دينار (43.8 مليون دولار) في 2021، مقابل 161 مليون دينار (55.5 مليون دولار) في 2020.
يشار إلى أن قطاع النسيج كان قبل 2011 يوفر حوالى 500 ألف فرصة عمل، وهو أحد أهم القطاعات المُدرَة للنقد الأجنبي في القطاع الصناعي بفضل الحركية الاستثمارية التي يعرفها، وقد وصل المزود الرابع في العالم للاتحاد الأوروبي، لكنه منذ العقد الماضي بات يشهد العديد من الصعوبات الهيكلية والمنافسة القوية من دول أخرى. ما جعل ترتيبه في التصدير إلى الاتحاد الأوروبي يتراجع بشكل مهم.
إلى ذلك، تراجع الإقبال على الاستثمار في مجال صناعة الجلود والأحذية إلى النصف تقريباً بين 2020 و2021 بنسبة 44 في المئة بسبب الصعوبات الهيكلية التي يشهدها القطاع والمنافسة القوية التي يجدها من توريد الأحذية من الدول الآسيوية وخصوصاً الأحذية المستعملة. ما جعل المشرفين على القطاع يطالبون بالتعجيل في عقد جلسة عمل وزارية للنظر في إشكاليات القطاع.
التخلي عن الامتيازات والحوافز
وبخصوص توزيع النيات بحسب نظام الاستثمار، فقد كشفت مؤشرات وكالة النهوض بالصناعة والتجديد أن النيات الموجهة نحو المشاريع المُصدَرة كلياً عرفت استقراراً، وقد بلغت 1054.3 مليون دينار (363.5 مليون دولار) في 2021، بينما النيات الاستثمارية الموجة للسوق المحلية تراجعت بـ37.4 في المئة لتبلغ قيمتها 1485.4 مليون دينار (512.2 مليون دولار) مقابل 2371 مليون دينار (817.5 مليون دولار) في 2020.
من جهة أخرى، سجلت الاستثمارات المصرح بها في المناطق الداخلية للبلاد (التمتع بامتيازات وحوافز ضريبية ومالية) بنسبة 22 في المئة لتصل مع نهاية العام الماضي إلى 1325.2 مليون دينار (456.9 مليون دولار) مقابل 1700 مليون دينار (586 مليون دولار) في 2020. ما يعني عزوف المستثمرين وتخليهم عن التمتع بالامتيازات في ظل قتامة الوضعين الاقتصادي والسياسي.
مرآة عاكسة للوضع الراهن
ويقول سمير بشوال المدير العام السابق لوكالة النهوض بالصناعة والتجديد، إن نيات الاستثمار تمثل مرآة عاكسة للواقع الاقتصادي لأي بلد ومدى جاذبيته لمختلف أصناف الاستثمار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشدد بشوال على أن القطاع الصناعي يمثل أحد أهم أعمدة الاقتصاد التونسي من حيث توفير اليد العاملة ونقل التكنولوجيا وتوفير العملة الأجنبية وكذلك إحداث فرص عمل.
وبنت تونس نموذجها الاقتصادي منذ سبعينيات القرن الماضي على القطاع الصناعي من خلال إجراءات وقوانين تؤسس لتطوير الصناعة بالتعويل على الصناعات المعملية (النسيج والملابس والصناعات الكيماوية والميكانيكية) بدلاً من القطاع الزراعي في تلك الفترة.
وكان لهذه السياسة مزايا مهمة امتدت على أكثر من أربعة عقود تم خلالها تسجيل مؤشرات جيدة على مستوى انتصاب العلامات الصناعية الأجنبية ذائعة الصيت.
ووفرت الاستثمارات الأجنبية في القطاع الصناعي جانباً كبيراً من احتياطي النقد الأجنبي.
ثلاثة عوامل رئيسة
ويربط بشوال تراجع الاستثمارات الصناعية في تونس خلال 2021 بثلاثة عوامل رئيسة، ويتعلق العامل الأول بالوضعية الاقتصادية الدولية على مستوى تراجع الطلب العالمي في سنتي 2020 و2021 بسبب تداعيات جائحة "كوفيد-19". ما جعل الاستثمارات العالمية تتراجع بشكل ملموس بما في ذلك تونس.
ويتمثل العامل الثاني في أن المستثمرين الأجانب والتونسيين صاروا متخوفين من المستقبل في البلاد التي تعرف عدم استقرار سياسي مع تراجع للعديد من المؤشرات الاقتصادية التي أضحت تؤثر بشكل لافت على نسق الاستثمار.
ويعتبر بشوال أن التراجع المهم واللافت في الاستثمارات الصناعية المصرح بها في تونس خلال 2021 مرتبط بحالة عدم الاستقرار السياسي. ما يجعل المستثمرين التونسيين والأجانب لا يعرفون مع أي سلطة يتعاملون علاوة على تغير المسؤولين على رأس الإدارات باستمرار.
أما السبب الثالث في تقهقر الاستثمارات الصناعية خلال 2021، فيُعزا بحسب بشوال إلى الضغط المسلط على المستثمرين.
ويتابع "أضحى المستثمرون وأصحاب الشركات الخاصة في تونس يتعرضون لحملة شيطنة ونعتهم بالفساد وتوعدهم بالمحاسبة القاسية". وهذه مسائل أثرت على تراجع نيات الاستثمار. ما يجعل موقع تونس غير جاذب للاستثمار بعدما كان قبل 2011 مميزاً ورابحاً للاستثمار، وفق بشوال.
ويؤكد بشوال أن لتراجع الاستثمارات الصناعية المصرح بها تداعيات مهمة على نسق الاستثمار الخاص في تونس، وخصوصاً على خلق الثروة وجذب العملة الأجنبية وإحداث فرص عمل جديدة في ظل ما تشهده البلاد من أزمة ارتفاع نسبة البطالة التي وصلت إلى 18.4 في المئة.
ويخلص بشوال إلى أنه في حال احتساب تراكم هذا الهبوط في الاستثمارات في القطاع الصناعي في السنوات الثلاث الماضية فإن النسبة ستتجاوز 50 في المئة.