رحل موسى وهبة، الأكاديمي اللبناني والمترجم الفذّ، عن ست وسبعين سنة (2017) لسنتين خلتا، وترك وراءه غمراً من الأسئلة التي كان يطمح، في ما خطّ من أبحاث، في أن يشرع المفكّر العربي في طرحها للمباشرة في وضع اللبنات الأولى لفلسفة عربية اللغة والانهمام. لم يكن موسى وهبة الأكاديمي اللبناني بشهرة المفكرين العرب المجايلين له أو السابقين من أمثال: محمد عابد الجابري، محمد أركون، وعبد الله العروي وغيرهم. ولئن كان للراحل العشرات من الأبحاث في الفكر (بحث في المنهج، المفاهيم تتحكّم بالنصوص، منطق الحرب، العلم والاستبداد، العقل السياسي، المادية الديالكتيكية، الحاجة إلى الفلسفة، البعد الفلسفي وغيرها الكثير)، فإنه لم يعنَ بنشر أبحاثه في رؤى متكاملة دالّة على انشغاله الأقصى والأحبّ إلى قلبه، باعتباره تلميذاً وفياً لكانط، وناقلاً، بأمانة علمية عزّ نظيرها، إلى العربية أهمّ كتاب له وهو "نقد العقل المحض"، عنيتُ به الكتابة الفلسفية بالعربية، بل التفلسف كما يحلو له أن يسميه. وهنا يجدر بالمرء أن يتوقّف قليلاً لدى صفة المترجم التي تلبّسها الفيلسوف، ويحسب له أنه تعلّم اللغة الألمانية حتى الإتقان – وكان يتقن الفرنسية في خلال إعداده الدكتوراه– من أجل أن ينقل الكتاب المفصلي في أطروحته عن كانط، وهو "نقد العقل المحض". فكان له ما أراد، إذ استغرق نقله الكتاب اثني عشر عاماً متواصلة، وبلغة عربية أصيلة. وكان الفيلسوف وهبة قد صرّح، في خلال مقابلة أجراها معه عبدو وازن- وهي الواردة في الكتاب (ص:107-115) - بأنه، أي نقل كتاب "نقد العقل المحض"، كان "تمريناً على القول الفلسفي باللغة العربية" (ص:107)، وبمعنى آخر شاءه الفيلسوف مجالاً لاختبار كفاية اللغة العربية في استيعاب أكثر العبارات الفلسفية الحديثة (الألمانية والفرنسية) وإن تكن تلك العائدة إلى القرن الثامن عشر، عصر الفيلسوف الألماني (كنط) الذي كرّس له الأكاديمي موسى وهبة جلّ حياته وأعماله وأبحاثه لشرحها وصوغ ما يعادلها في اللغة العربية، ويكون ترجمة لرؤية فلسفية أصيلة فكرياً ولغوياً. وقد يكون في ترجمة الكتاب إلى العربية، خير الدروس لكلّ من يودّ خوض غمار الترجمة إلى لغة الضاد، من حيث الإعداد المعرفي، والكفاءة اللغوية، والتبحّر في اللغتين المقصودتين بالنقل: الألمانية المنقول عنها والعربية المنقول اليها أو المستهدفة، كما يقال بلغة الترجمة.
كتابان غير منشورين
وها أنّ كتابين صدرا له حديثاً، بهمّة تلميذه جمال نعيم، والمؤتمن على مخطوطات الفيلسوف المتوفّى، وهما، على التوالي: البعد الفلسفي بالعربية، وكتاب النثر، الذي نحن بصدده، والصادر عن دار التنوير لهذا العام (2019). الأول ينطوي على رؤية فلسفية شاملة، يطرح فيها الفيلسوف منهجاً للتفكير –فلسفياً-ناظراً من خلاله إلى مفاصل الحياة ومظاهرها الواقعية من هذا المنظار، وساعياً إلى ابتداع لغة فلسفية، وإن مستلّة مفرداتها من قاموس كانط، أصيلة ومعاصرة في آن. أما "كتاب النثر" الذي نفرد له مجالاً ههنا، فهو مجموعة مقالات في 304 صفحات من القطع الوسط تدور بمعظمها حول أمور فلسفية محض مثل، الفرد والجماعة، والتنوّع والتعدد، ونقد الموضوعية، ومسافة الحرّية بين الأنا والآخر، والمدينة، والدهماء، ورسائل إلى أصدقاء ومقرّبين، وفصل من سيرة فعيل، والديمقراطية، والكائن، وغيرها الكثير. وتلك عناوين لهموم كان المثقفون العرب، ولا يزالون، يتداولون في أمرها ويسعون إلى تدبّر أمرهم حيالها. وفي حوار حول "المثقف" كان أجراه معه الروائي حسن داوود، والذي نشر على صفحات جريدة "السفير" نهار الأحد في 16-7-1983، أي بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت بسنة واحدة أشار وهبة إلى أنّه بات ينتمي إلى "الثقافة اللامنتمية" أي تلك التي تجيز للمثقف أن يكون في حلّ من الانتماء إلى الأحزاب ذات الإيديولوجيات الأحادية، ومع ذلك يجد أنّ المثقف أحوج إلى الأفكار حتى يتسنى له أن يصنع نموذجاً لدولة "لا يتحقق في الواقع".
وفي الكتاب أيضاً مقالات أدبية خالصة، مرة تتخذ شكل سردية متوالية المشاهد، كما الحال بمقالاته حول "المدينة" حيث يبتدع الكاتب شخصية أبو وحيد "وينطقه بما يودّ أن يعبّر عنه في مسألة الكهرباء وفي إهمال السلطات المحلية شؤون الناس حيناً، وحيناً آخر يستنطق "صاحبه" أموراً حياتية مختلفة، وأحياناً تراه يسرد أحواله بصيغة المخاطب المفرد (ص:152) في نوع من الالتفات البليغ، وانتظاراته في قاعة الطبيب المشهور ليداوي "ساقه اليسرى" ودمه النازف ببطء بانتظار آلة الفكّ التي تأخر وصولها ساعتين إضافيتين!
وفي المقالات الأخرى، الكثير من اللُمع الأدبية المطعّمة بالسرد والوصف والمحاجّة وبعض الشعر والكثير من الأفكار التربوية ("ماذا نعلّم أولادنا؟") والرسائل القصيرة والمكثّفة الموحية، وغيرها الكثير مما يستأهل النظر فيه وإعادته لثراء كان مخبوءاً وظهر.