Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"سفينة" المهاجرين يقودها الحنين من هايدلبرغ نحو مدن عربية

عرض مسرحي ألماني - عربي حوى نصوصاً عن الغربة لمحمود درويش وجبرا

من عرض "سفينة" الألماني - العربي (الخدمة الإعلامية)

على الرغم من أنه لا بحر في هايدلبرغ الألمانية، إلا أن جمعية أصدقاء الفن والثقافة العربية في هذه المدينة العريقة اختارت أن تطلق سفينة مختلفة،  تبحر ليس من خلال نهر "نيكار" (367 كيلومتراً) الذي يعبر المدينة نحو مانهايم، وإنما على خشبة المسرح، على شكل "سرد نصي في حكاية بحرية كبيرة".

المشاركون على خشبة المسرح القريبة من الجمهور، وهو أمر أليف يجعل المشاهدين جزءاً من العرض، فيحكي كل واحد منهم قطعة من حياته القديمة عن مسقط الرأس، قبل وصوله إلى الاغتراب أو المنفى في ألمانيا منذ سنوات طويلة. تتداخل المقطوعات بعضها ببعض وتصير كأنها صوت واحد ينطلق من حنجرة تتلهف للتحدث بلغة الوطن الأم في بلد غريب وبعيد لا يفهم هذه اللغة.

المشاركون كانوا يتابعون حكاياتهم وأسئلتهم على الخشبة، بينما في الخلفية شاشة تظهر عليها الوجوه والأماكن والمدن التي تبحر إليها هذه السفينة، وهي فكرة ذكية جعلت المتفرج يحضر عرضين في الوقت نفسه، عرضاً ثابتاً على الخشبة، وعرضاً متحركاً ومتبدلاً على الشاشة.

أسئلة الاغتراب

لا تبدو المسألة سياسية على الرغم من أن السياسة تبدو فضاء عاماً لحكايات الذين أبحروا منذ زمن بعيد خارج بلدانهم، بل حياتية وإنسانية، والعرض يطرح تلك الأسئلة الثقيلة على النفس عند الموازنة بين ترك المكان الأول بكل تفاصيله الخاصة والخفيفة، من أشخاص وأماكن وروائح وأغان وعنف وسهرات وحتى أطعمة، وبين النجاحات والاستقرار الذي حققته الشخصيات خارجاً، وربما ما كانت لتحققه لو بقيت في الوطن. إنها الموازنة بين ذلك الهجران وهذا الاستقرار العابر، والذي يبقى عابراً ولن تجعله النجاحات يغرق في دواخل الشخصيات.

ومن المونولوغات المتتابعة تبدو المدن التي جاء منها المشاركون على الرغم من بؤس بعض تلك المدن وقسوتها عصية على النسيان لدرجة أن "مسقط الرأس صار سراباً ألاحقه دائماً"، مثلما عبر عنه صوت خافت من تلك الأصوات.

لا أعرف الصحراء

تبدأ الرحلة البحرية بصوت مفرد آت من الشرق البعيد، "أنا ابن الساحل السوري/ أسكنُه رحيلاً أو مقاماً/ بين أهل البحر/ لكن السرابَ يشدني شرقاً/ إلى البدو القدامى". وهو مقطع شهير من قصيدة "لا أعرف الصحراء" للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا الاستهلال الذكي يأتي دالاً وذكياً لمتابعة عمل السراب الذي يشد الشخصيات من مدنها المبعثرة البعيدة نحو مدن الشرق، لتنطلق الرحلة الاستعادية والاستكشافية من بغداد، ولتتابع السفينة رحتلها إلى القدس القديمة، ثم دمشق ومن بعدها مرفأ بيروت. وعند مرفأ بيرت يأتي صوت يقرأ قطعة نثرية للكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا كخلفية لهذا المكان. "البحر جسر الخلاص. البحر الطري الناعم، الأشيب، العطوف. وقد عاد البحر اليوم إلى العنفوان". ثم قطعة قصيرة أخرى تبدو مناسبة أكثر: "البحر خلاص جديد.. إلى الغرب إلى جزر العقيق"، وهي مأخوذة من رواية "السفينة" لجبرا لتبدو سفينة من الماضي، ماضي درويش وجبرا، الذي يؤلف ماضي مكان الشخصيات في الوقت نفسه.   

يتناوب السرد بين الشخصيات التي تحملها السفينة، والتي تتحدث، ليس بالتناوب دائماً، عن حياتها وصراعاتها وآمالها ومآزقها وكوابيسها وافتقاداتها ورغباتها، وكل ذلك السرد محمول على جناحي الفقد والشوق. يتحدثون وكأنهم من عائلة واحدة أو كأنهم من بلد واحد هو المنفى أوالفقد.

الهوية والواقع

تتحدث تلك الشخصيات وكأنها ترتجل كلامها الآن. كأنها تتابع حياتها بالفعل. تحكي عن الأوطان والكتب والفلسفة والحب والأدب والخلاص والبحر الذي يُحيط بها وبدواخلها طوال الوقت. وتبدو كل تلك المقولات واقعة ضمن أسئلة وصدمات وخطابات حول الاغتراب والهوية خلال الحياة اليومية السريعة والطاحنة.

خلال الإبحار لا تقود تلك السفينة فقط قصائد درويش وجبرا، بل نسمع كذلك شعراً للشاعرة الألمانية هيلدا دومين (1909 – 2006) وللشاعر الإنجليزي ماثيو آرنولد (1822 – 1888). مثل هذا المقطع "هذا البحر المقمر غير حقيقي/ الكل زائل سوى هذه الأمواج".

زهرة المدائن

لا يمكن تجنب الحديث عن المآسي التي حصلت لكثير من الشعوب العربية عند الوصول إلى محطة القدس، فالحنين الذي يقود هذه السفينة قاس، وربما كان ما جرى للقدس ولفلسطين هو أقسى ما يمكن تذكره من ماضي المكان، فالقدس لها ذلك الأسى الخاص مثل لمعانها الخاص، ومثل دورها الكبير حتى في تغيير مدارس كتابية عدة في الأدب العربي، فالمغترب من العراق وسوريا ولبنان يستطيع العودة يوماً ما، وربما عاد عشرات المرات من مغتربه كزائر، بينما الفلسطيني يُحرم من ذلك، ولا يستطيع حتى أخذ أولاده الذين ولدوا في المنفى لزيارة مسقط الرأس، ولا في تسجيله ضمن سجلات ذلك المكان. لذلك عندما يعلو صوت ينادي: "يا قدس. لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي. يا زهرة المدائن". تسري رجفة في المشاركين والحضور على الرغم من كلاسيكية هذا الصوت ضمن هذا الخيال.

العرض المسرحي المرئي الذي عرض في صالة كارلستور بانهوف في مركز الثقافة المعروف في هايدلبرغ، وحضره أكثر من 100 شخص ولم يجد كثيرون مكاناً لهم، أبحر من بيروت إلى جزيرة كريت اليونانية برؤية إخراجية مدهشة من المخرج الألماني سيلفان شتيفان ومساعدته باولا زاسي.

العرض الذي كتبت مادته يوانا دانكيل شارك فيه كل من جورج عنتري وعايدة وكيلة (فلسطين) وسلاف المصلح وعلياء الأتاسي ويحيى مدني وسمير توام (سوريا) وألينا باباجياناكي (اليونان) وغودرون سيدراسي وناديا مدني مدرس (ألمانيا).  

المشاركون ليسوا ممثلين، فمنهم الموسيقي ومنهم الأديب والتاجر والصناعي والعامل في حقل الثقافة وحقوق الإنسان والمغني، لكنهم كانوا على قدر عال من الحضور، لأنهم ببساطة تابعوا حياتهم على خشبة المسرح مثلما يعيشونها عادة في بيوتهم وبين أصدقائهم وتحت ضربات حنينهم الثقيل. عرض بصري وفانتازي وحقيقي وقت واحد ظل يطوف حول جملة محمود درويش الأثيرة "أنا من هناك. أنا من هنا/. ولستُ هناك، ولستُ هنا/ لي اسمان يلتقيان ويفترقان/ ولي لغتان نسيت بأيهما كنت أحلم".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة