كلّ شيء عندها بدأ في عُمان. الحكاية، الثقافة، الهوية... لكنّ أدبها لم ينته هناك، بل امتدّ جغرافياً حتى اخترق "العالمية".
قبل عامين، فازت جوخة الحارثي (1978) بجائزة "بوكر مان الدولية" عن روايتها "سيدات القمر" بترجمة إنكليزية أنجزتها مارلين بوث تحت عنوان "أجرام سماوية"، لتغدو هي أول شخصية عربية تفوز بهذه الجائزة الأدبية المرموقة.
بعدها، تُرجمت الرواية إلى أكثر من عشرين لغة، ودخلت قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا والهند، وها هي اليوم تُحقق إنجازاً جديداً بحصدها جائزة "الأدب العربي" المترجم إلى الفرنسية أو المكتوب بها، في فرنسا، وتمنحها مؤسسة لا غاردير مع معهد العالم العربي في باريس. وقد رشحت إليها هذا العام روايات مكتوبة بالفرنسية أو مترجمة إليها لكتّاب مثل اللبنانيين شريف مجدلاني ونجوى بركات والمغربية ليلى باشين والسعودي عزيز محمد والجزائري سمير القاسمي والفلسطينية عدنية شبلي وسواهم.
وعقب الإعلان عن فوزها، تواصلت "اندبندنت عربية" مع الكاتبة العُمانية الموجودة حالياً في باريس، للسؤال أولاً عن شعورها إزاء هذا الاعتراف الفرنسي بأدبها، فأجابت: "سعدتُ بجائزة الأدب العربي في فرنسا، لأنّ هذا الفوز يسلط الضوء أولاً على الأدب العماني، الذي يكاد أن يكون اطلاع القارئ الفرنسي عليه معدوماً، في حين أنّ كثيراً من النصوص العُمانية تتمتع بخصوصية لافتة تجعلها جديرة بالقراءة والاهتمام".
بعيداً عن النجومية
جوخة الحارثي روائية اختارت أن تكتب بصمت لكنَّها وجدت نفسها فجأة وسط صخب "النجومية". ومن يتابع مسيرتها، يُدرك أنّ صاحبة "سيدات القمر" بعيدة إلى حدّ ما عن ضوضاء الإعلام والأمسيات الأدبية والعلاقات الافتراضية، لكنّ فوزها بواحدة من أعرق الجوائز الأدبية جعل اسمها تحت المجهر. وانطلاقاً من هذا التحوّل، سألنا جوخة الحارثي عن تأثير هذه الجوائز عليها، أدبياً وإنسانياً. فأجابت: "الميزة الجوهرية لهذه الجوائز أنها توسع قاعدة مقروئية الكاتب. فرواية "سيدات القمر" ترجمت الى إحدى وعشرين لغة بعد فوزها بالبوكر العالمية. ولكن ثمّة أعباء تأتي معها، وبخاصة النجومية غير المرغوب فيها. فالكاتب ينجز عمله أساساً في العزلة. وغالباً يُفضّل أن يظلّ هناك".
وبعد هذا الاعتراف الدولي بأدب جوخة الحارثي، كان لا بدّ أن نسألها: "هل تعتبرين نفسك اليوم كاتبة عالمية؟". فردّت بثقةٍ واقتضاب: "أرى نفسي كاتبة وحسب. لا يهمني التصنيف". الكلام عن الذات والإنجازات قد يحمل شيئاً من الإحراج، لكنّ الأكيد أنّ وصول أي كاتب عربي إلى ثقافات أخرى يمنح أدبه شيئاً من "العالمية"، ويساهم في تعزيز الأدب العربي دولياً.
وهذا ما فعلته الحارثي التي استُقبلت ليلة أمس في معهد العالم العربي في باريس، حيث أقيمت حفلة تسلمت خلالها الجائزة، تلتها "ساعة نقاش" حول روايتها الصادرة بنسختها الفرنسية عن دار "ستيفان مرسان"، بترجمة خالد عثمان. وحين تحدثت الحارثي عن الحضور الخجول، إن لم نقل المعدوم، للأدب العُماني فرنسياً، على عكس الآداب العربية الأخرى والآتية تحديداً من لبنان ومصر والعراق، علّق محاورها الفرنسي جاك مونييه بالقول: "ولكن هذا الحال لن يستمرّ بعدك".
أدب غني
وليس دفاع الحارثي عن أدب بلادها دفاعاً عصبياً، بل لأنه غنيّ ومتنوّع بتراثه وثقافاته وأعراقه ولغاته، ما يجعله جديراً بالاهتمام. وفي هذا السياق، استدلّت الحارثي برواية جديدة قرأتها أخيراً لمواطنها العُماني زهران القاسمي بعنوان "تغريبة القافر"، وهي تتحدّث عن رجلٍ متخصص في شقّ قنوات المياه ومتابعة "الأفلاج" المطمورة في الأرض، بحيث يبقى بطلها، طوال الرواية، متعقباً صوت المياه بين الأودية والجبال لكي يعرف من أين يُحفر الفلج. وأضافت: "مثل هذه الرواية تحمل خصوصية مكانية، ومن هنا أهمية الانتباه الى تفرّد هذا الأدب، وتميّز عوالمه وشخوصه وموضوعاته".
هذه الثقافة العُمانية اختارتها الحارثي منبعاً تنهل منه حكاياتها وأحداثها وتصوراتها. قد لا نزعم أنّ "سيدات القمر" تعكس صورةً متكاملة عن تاريخ عُمان الطويل والثريّ، لكنّها نقلت ملمحاً مهماً من ملامحه. وعلى رغم "محليّة" الرواية، نجحت في مخاطبة "العالم" من خلال "الإنسان".
تغوص الحارثي في أعماق المجتمع العماني عبر أجيال متعاقبة تمتدّ على مئة عام تقريباً، لترصد تحولات هذا المجتمع وانقلاباته السياسية والاجتماعية والثقافية. وهي تنتزع من الرجل هيمنته لتمنح المرأة "سيادةً، تبدأ من العنوان (سيدات القمر) وتستمرّ حتى نهاية النصّ.
تُشكّل الأخوات الثلاث (ميّا، أسمى، خولة) جوهر الرواية. وقد رسمتهن الكاتبة بشخصيات متباينة لكي تسبر، بحسب قولها، غور هذه الرؤية الى الحياة، التي لا تختلف حصراً من ثقافة إلى ثقافة أخرى، وإنما من أشخاصٍ ينتمون إلى البيئة نفسها، والأسرة عينها، والأبوين نفسيهما. وهذا ما يُخالف النظرة الأحادية إلى العالم العربي، الذي يُرى على أنّه كتلة واحدة، جامدة، رغم كلّ ما يكتنفه من تنوعات عرقية ودينية ولغوية وثقافية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"سيّدات القمر"، صدرت بالعربية للمرّة الأولى عن دار "الآداب" في عام 2010، وبعد تسع سنوات كُتب لها ولادة أخرى حين خطفت جائزة البوكر الدولية بترجمتها الإنكليزية، تحت عنوان "أجرام سماوية"، وهو العنوان الذي اعتمدته الترجمة الفرنسية أيضاً. فكيف تقرأ جوخة الحارثي هذا التغيير في عنوان روايتها؟ عن هذا السؤال تُجيب: "تحمل كلمة "القمر" دلالات كثيرة في الثقافة العربية، من الأنوثة والجمال، إلى السموّ والارتقاء، فالسحر والغموض. وهي، بكل تأويلاتها، تتناغم مع جوّ الرواية وجوهرها. ولكني لستُ ضدّ التعديل عامًة، لأنّ العنوان قد يتغيّر في الترجمة ليتكيّف مع الثقافة المُترجَم إليها. والمعروف أنّ دلالات تلقّي كلمات معينة في ثقافة ما تختلف عن طريقة التلقي في ثقافة أخرى. وفي كلّ الأحوال، "أجرام سماوية" هو أيضاً عنوان متصّل بروح الرواية، ويوحي بأجوائها، حقيقةً ومجازاً".
"هذا الكتاب يرتكز على الواقع العُماني، لكنه يحكي عن البشرية جمعاء ويخاطب الكون"، هكذا وصفت لجنة التحكيم برئاسة مدير "لاغاردير" بيار لوروا رواية "سيدات القمر".
مثل هذا الكلام يثبت مرّة جديدة مقدرة الأدب العربي المعاصر على المنافسة، وعلى جذب الانتباه من خارج سياقها اللغوي والثقافيّ. لكنه يضعنا أمام سؤال جديد: ما الذي ينقص أدبنا العربي ليكون حاضراً بقوة أكبر في الثقافات الأخرى؟ وهل ستبقى جوخة الحارثي حالة فردية خاصة أم أنّها ستشقّ الطريق أمام كتّاب آخرين في تحقيق الاعتراف الدولي؟