"بوريس أجرى مفاوضات في أوروبا. وأذكر أنه في المرة الأخيرة التي أبرم فيها صفقة ظفر بثلاثة مدافع مياه شبه جديدة". وهذه دعابة في محلها ألقتها سيدة بدا الفرح عليها والرضى عن حياتها والراحة، وكانت ترتدي بزة وسروال من تصميم فيفيان وستوود. وبعد موقفها هذا بـ11 يوماً، انتُخبت رئيسة للوزراء، فانقطعت أخبارها وفُقد أثرها.
وهي دخلت 10 داونينغ ستريت، مقر الحكومة البريطانية. لأن جناح بريكست في حزبها لم يسعه إنجاز ما يريده ويصبو إليه. وبعد 3 سنوات، ستخرج من الحكومة للسبب نفسه. وأصيبت رئاسة الوزراء بالشلل جراء أضرار ذاتية ألحقتها بنفسها. ويتعذر اليوم القول أن الفشل كان مصيرها منذ البداية. فأن يصبح الشخص رئيساً لوزراء المملكة المتحدة جراء اتخاذ سلفه قراراً باستحالة القيام بما يُنتظر منه، هو سابقة تاريخية.
وكان موقف ديفيد كاميرون الذي أعرب عنه في فجر 24 يونيو (حزيران) 2016، مفاده أن الشخص الوحيد الذي في مقدوره توجيه دفة البلاد وأن يمضي بها قدماً هو من يؤمن ببريكست ويضعها نصب عينيه. ولكن رأي تيريزا ماي في بريكست لا يزال إلى اليوم غامضاً. فهل يسع أياً كان معرفة فعلاً موقفها من مسألة المسائل؟ فإشهار الرأي ينطوي على خطر أن يسلبه أحدهم من صاحبه. وهي تتوخى الحذر ولن تغامر.
وهي اقترعت للبقاء في الاتحاد الأوروبي، وهذا ما نعرفه، وهو موقف دعاها إلى تسليم أبرز الوزارات في حكومتها إلى مؤيدين بارزين للانسحاب، بريكست. ولكن حين سلمت بوريس جونسون منصب وزارة الخارجية، كان مصدر إحراج على الساحة الدولية، ولم يُمسك عن قول أشياء مروعة لا يقولها نظراؤه، ولا يُفترض بأبرز مسؤول ديبلوماسي في البلاد قولها. وواصل ديفيد ديفيس ووليام فوكس إعلان أهداف تتناول بريكست يُتعذر بلوغها حتى بعد تولي واحدهما مناصب تنفيذية. والوضع هذا كان مهزلة لا تُحتمل. وفي بادئ الأمر كانت الأمور متعذرة، ولكنها قيدت نفسها أكثر، ذات ليلة في يونيو (حزيران)المنصرم نتناولها في وقت لاحق.
وكان دورها صغيراً في أعلى منصب في البلاد. وشأن كثيرين في دوائر الحياة العامة، وأوجه الشبه بينها وبين غوردون براون هي الأكبر، بقيت غامضة ولم يظهر إلى العلن مَن هي عليه فعلاً إلا لحظة تنحيها والاضواء مسلطة عليها. واليوم صار جلياً أن ثمة فائدة ترتجى من المعايير العالية لبلوغ مثل هذا المنصب، أي قيادة المعارضة والفوز بانتخابات عامة. ومن لم يصلح لهذا الدور هم من لم يواجهوا مثل هذه التحديات القاسية.
وبعد أيام من بلوغها منصب رئاسة الوزراء، وقعت محاولة انقلاب في تركيا، وتوجب عليها تسجيل شريط تلفزيوني صغير يُوجه الى القنوات الإخبارية ويتناول ما جرى. ولكنها جفلت أمام العدسات مثل غزال تُسلط عليه الأضواء. وهذا مشهد لم يره كثر من قبل. ولكن اليوم صار موقفاً مألوفاً لا يجهله أحد.
فهذا الجانب من منصبها، وهو جانب تؤدي فيه الطلة الفوتوغرافية والقدرة على التواصل دوراً حيوياً فيالسياسة المعاصرة، في السراء والضراء. ولكنه لم يكن في متناولها، وهذا كلفها الكثير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإلى حين صدور نتائج الانتخابات العامة في العاشرة مساء الثامن من يونيو 2017، كان في الإمكان القول أنها رائدة في التخطيط الاستراتيجي السياسي. وحين عادت من القصر الحكومي إثر تسلمها منصب رئاسة الوزراء في تموز (يوليو) ذلك العام، وقفت أمام مقر الحكومة في ضوء النهار، وسطت على المشروع السياسي لليسار الوسطي. فوعدت بالتعويض عن "الضيم وغياب العدالة" في بريطانيا المعاصرة، وبناء بلد "لا يخدم فحسب قلة من المحظيين".
وحين وجهت إليها الأسئلة في المرحلة الأولى من رئاستها، بدا وكأن طيف مارغريت تاتشر تلبس بها، ولم يكن شاغلها إلحاق الهزيمة بجيريمي كوربين بل القضاء عليه. ثم بعد أشهر قليلة، أدلت بأول خطاب لها، وفيه استبدلت قناع اليسار الوسطي التي لم تكن نزعته بعد، بلباس حزب استقلال المملكة المتحدة.
وأعلنت عن سياسات شملت الشركات التي تنشر أسماء العاملين الأجانب. ودار كلامها على العودة الى العمل بنظام مدرسي توقف العمل به منذ الستينات تقريباً. وألقت كلمات كان المعني بها في المقام الأول المتهربين من الضرائب في الجنّات الضريبية، ولكنها وقعت وقعَ الإهانة الكبيرة على ملايين من المولودين في بريطانيا، فهي قالت: "إذا كنت مواطناً في العالم فأنت لست مواطناً ولا تنتمي إلى أي مكان".
والاستياء الناجم عن خطابها لم يؤثر سلباً تصدرها استطلاعات الرأي بحوالي 20 نقطة طوال أشهر. وكان لسان حالها طوال أشهر مديدة "بريكست هي بريكس"، ولم تتأثر بالاستهزاء الذي لقيته حين كان تفتقر إلى الدقة وترفض جواب أسئلة بسيطة.
وفي نهاية الامر، حزمت أمرها وحددت معنى بريكست. وعرّفته على أن المقصود به هو "الخروج من الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة"، على قولها في خطاب ألقته في لانكاستر هاوس. وما قالته خطأ استراتيجي لا يخفى كل ملمّ بعمل الاتحاد الأوروبي. ورسمت خطوطاً حمراً يجب تجاوزها حين تكون الظروف مؤاتية. ولكن حين آن أوان تجاوزها لم تكن الظروف مؤاتية.
ولكنها لم تبالِ. فالمحافظون فازوا بانتخابات فرعية في كوبلاند بدا أنها تقوض مشروع كوربين الى حد جعل المعلق الصحافي أوين جونز يفقد الثقة فيه. وبينما كانت تتنزه في سنودونيا مع زوجها، اتخذت ما بدا أنه قرار حكيم ومعقول لضمان أغلبية برلمانية ستحتاج إليها لتمرير اتفاق بريكست في البرلمان (على رغم أن الرؤية التي كانت تسعى إليها في اتفاق بريكست حينها، لن يقبلها أبداً نظراؤها الأوروبيون. وكان السير إيفان روجرز، أبرز ديبلوماسي بريطاني في الاتحاد الأوروبي، ليُنبهها إلى ذلك، ولكنه كان استقال من نصبه احتجاجاً على عدم الاصغاء إليه والأخذ بما يقوله). ورمى قرارها كذلك إلى تأجيل موعد الانتخابات العامة إلى ما بعد الموعد الأخير الذي تنص عليه المادة 50 من اتفاقية لشبونة. فهي حسبت أن الخطوة هذه ستطيح المعارضة السياسية لها في صفوف حزب العمال والاتحاد الأوروبي.
وعواقب ما ترتب على ذلك هو موضوع نقاش وخلاف لن تنتهي فصوله. ولكنها في الأسابيع التي تلت ذلك، أجازت لمستشاريها نيك تيموثيوفيونا هيل، وكبير خبراء الاستراتيجيا في حزبها، لينتون كروسبي، نسج صورة مُبجلة عنها لا تستحقها، وثبت يوماً بعد يوم أنها سيدة من دون شخصية.
وعولت على شعارات لتفوز بالانتخابات منها "قوية ومستقرة" "تحالف الفوضى"، وهي شعارات شاعت إلى حد أنها، وبعد عامين على الانتخابات، لا تزال موضوع بطاقات ساخرة في متاجر الألعاب والهدايا. ومع رسمها صورة ساخرة عن نفسها، خالف جيريمي كوربين التوقعات، وصار المرشح الأبرز في دائرة الناخبين الأكثر تأثيراً في نتائج الانتخابات، وهم الناخبين الذين لا يبالون بالسياسية ولكنهم يتخذون قرار المشاركة في التصويت في الأيام الأخيرة التي تسبق الاقتراع، ويقررون مَن من المرشحين الى رئاسة الوزراء يرغبون في أن يكون جليسهم في احتساء البيرة. ولم يتوقع أحد خسارتها في هذا السباق. ولكنها خسرت. وهذا ما أفضى بها الى قاعة رياضية في مايدن هاد في الثالثة صباحاً وعلى وجهها قناع من اليأس وهي تقف جنباً إلى جنب رجل يرتدي زي سيد المكان، "سبايس لورد"، يعلو وجهه قناع يشبه الدلو. ومنذ تلك اللحظة، بلغ عملها شأن حياتها، مرحلة التعذر والاستحالة. فاستعانت بالحزب الاتحادي الديموقراطي لدعم حكومتها بعد أن خسرت الغالبية. ففي مفاوضات البريكست مع الاتحاد الاوروبي، صارت مسألة الحدود مع إرلندا الشمالية- وكان يُفترض أن يكون حلها من أيسر المسائل قبل البدء بمفاوضات جدية- عصية على الحل. ورفض الاتحاد الاوروبي عودة الحدود الجمركية مع جزيرة إرلندا، في وقت لم تقبل ماي البقاء في الاتحاد الجمركي، في وقت كان الحزب الاتحادي الديموقراطي يرفض تغيير مكانة ارلندا الشمالية ضمن المملكة المتحدة. وتملك إرلندا الشمالية منذ سنوات قوانينها الخاصة والمختلفة في مسائل الاجهاض وزواج المثليين. ولكنها لا تريد قوانين خاصة بها في هذه المسألة تحديداً.
وصارت عبارة "باكستوب"، شبكة الأمان الحدودية بين الاتحاد الاوروبية وإرلندا الشمالية، راسخة في نفوس الأمة وصنو الدوران في حلقة مفرغة. فأصيبت الأمة البريطانية بحال تشبه الشلل في الكوابيس شهراً بعد شهر في وقت كانت تحاول المضي قدماً. والأوقات التي اضطرت فيها الى انقاذ عقد رئاستها من الانفراط كثيرة إلى حد أن تعدادها متعذر. وقاطع تيريزا ماي رجلٌ ذاع صيت مزاحه ودعابته في منتصف خطاب لها، ومنحها ورقة نهاية خدمة، "بي 45". فتلاشى صوتها وتداعى عالمها.
ومضى عامان على تصويت المملكة المتحدة للانسحاب من الاتحاد الاوروبي قبل أن تفلح ماي بحمل حكومتها على موقف موحد من استراتيجية التفاوض. فعقدوا العزم في قمة نُظمت في مقر رئاسة الوزراء الصيفي. والاثنين، قام وزيرها الى البريكست ووزير خارجيتها بتجاوز الاتفاق هذا.
وكانت وتيرة إبعادها وزراء حكومتها غير مسبوقة. وخسرت أصوات برلمانية أكثر مما فعل أسلافها ديفيد كاميرون وغوردون براون وتوني بلير مجتمعين. وواحدة من خساراتها كانت الاكبر في التاريخ السياسي البريطاني. وأدت خسارة أخرى إلى إدانتها بازدراء البرلمان جراء رفضها إطلاعه على مذكرة مشورة قانونية سلبية. وهذه سابقة من نوعها.
ولكنها فازت باقتراع حيوي. ففي نوفمبر (تشرين الثاني)، حين أخفقت في تقديم اتفاق الانسحاب أمام مجلس العموم لأنها كانت واثقة في أنها ستخسر التصويت، أفلحت مجموعة الأبحاث الاوروبية في تقديم تصويت لسحب الثقة منها. وفي ذلك اليوم، تقاطر النواب على غرفة الاقتراع المكسوة بخشب البلوط وسجاد وثير الواحد تلو الآخر وأودعوا أصواتهم في الصناديق، وقرروا أنها تستحق ثقتهم.
وبدأت فصول عملية تعذيب سياسي لم تعرفها البلاد من قبل. وعلى الرغم من أن نوابها لم يسحبوا منها الثقة، حرموها من هدفها الوحيد. فقدمت مشروع الانسحاب ثلاث مرات أمام مجلس العموم، وفي المرات الثلاثة منيت بالهزيمة. وفي كل مرة، عادت الأعقاب الى بروكسل للحصول على تنازلات متعذرة، فبدت مثل نادلة واقعة بين فكي طاه عنيد وزبون صعب المراس. وتواصلت عملية التعذيب في الشتاء والربيع. وتغيرت الفصول ولكن الامور بقيت على حالها. وتخللتها مجموعة بيانات غريبة أعلنت في داونينغ ستريت وخارجه. ولم يعد الانسحاب من دون اتفاق أفضل حالاً من اتفاق سيء يحدد شروط الانسحاب. وبدا كما لو أن بريكست لم تعد تعني الانسحاب بالضرورة من الاتحاد الاوروبي، وأن الامور تتداعى.
وفي آخر خطواتها البائسة، وقفت، في وقت متأخر من الليل، وراء مصباح في 10 داونينغ ستريت، وحدقت بعدسات كاميرات تلفيزيونية، في محاولة للتوجه مباشرة الى عامة الناس، وألقت لائمة الطريق المسدود والفوضى على النواب. وهذا كان مذهلاً. ففي 24 ساعة، شارفت على الاعتذار.
وذاع صيت البيان الذي قالت فيه انها " تأسف شخصياً للاخفاق في إرساء البريكست فهو أمر تندم عليه ". وترتب على الاخفاق هذا حتمية مشاركة المملكة المتحدة في الانتخابات البرلمانية الأوروبية. وأطلقتت عملية البريكست شياطين شعبوية رهيبة من عقالها على المملكة المتحدة. ووجدت الشياطين هذه في الانتخابات الأووربية فرصتها الذهبية.
ولكن أن تطلق رئيسة الوزراء البريطانية، وهي زعيمة الحزب المحافظ، يد هذه الشياطين هو أسوأ ما فعلت. وعواقبه المحتملة لا تُعقل. ولكن التعذيب السياسي لن يتواصل في الصيف. فالعرض انتهى.
وتعلو الاصوات المتسائلة عن حكم التاريخ عليها. وهذا ما لا يسعنا معرفته. فالتاريخ سيُدرج عهدها في سياق ما هو آت، وما سنعيشه. ومن الممكن، وحتى أنه مرجح، أن يُستعاد عهد ماي في رئاسة الوزراء كمرحلة هادئة. فهي ارتكبت أخطاء. واللوم يُلقى عليها جراء مشكلات بريكست، على الرغم من أنها لم تكن هي المشكلة. وهذا سرعان ما سيتضح.
وفي أيام الفوضى في 2016، بدا أنها الخيار المعقول والمنطقي. فهي كانت مترددة ولم تكن، على أقل تقدير، متحمسة لمعسكر البقاء في الاتحاد الاوروبي. وبدا أنها تمد جسراً بين عالمين مضطربين. وهي تتنحى من زعامة حزب تنهشه حرب أهلية داخلية. ولم تنقضِ الظروف التي كانت وراء اعتبارها الشخص المناسب في هذا المنصب، بل تفاقمت. ولن تكون حال غيرها أفضل في تدبير الازمة من حالها.
ويُحتمل أن التاريخ سيذكر أن هذه المرحلة غلب عليها سوء الطالع. فماي اختارت أن تمتطي حصان البريكست الهائج. ولم يسعها توقع الأزمة المتنقلة التي يمثلها الرئيس الاميركي، دونالد ترمب. ولم يسبق أن تكبد أحدهم ثمناً غالياً مثلها مقابل كل هذه الآلام.
ولائحة من يتقاذفون لائمة الحال المزرية التي عاشتها البلاد ورئيسة وزرائها، تطول ويتعذر إدراجها في رسم بياني. والكل عانى الأمرّين. ولن يكون مفاجئاً بعد انحسار الضغط، أن يُعثر على معدلات تعاطف كبيرة معها. وقد لا تعلو صرخات ترجوها العودة تقول "عودي يا تيريزا ماي" ولكن سرعان ما ستُعذر وتُغفر.
© The Independent