Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروسية مارينا ستيبانوفا تستخلص دروسا إيطالية

3 شخصيات تواجه أعطابها الذاتية وتردي العلاقة بالآخر

الروائية الروسية مارينا ستيبانوفا (جائزة بوكر)

"الدروس الإيطالية" رواية روسية صادرة عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"، ترجمة فؤاد المرعي، وهي الثالثة لصاحبتها، بعد "نساء أليعازر" و"الجراح". وتدور أحداثها بين موسكو الروسية وتوسكانا الإيطالية، خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهي المرحلة التي شهدت انهيار الاتحاد السوفياتي، وكانت لها آثارها الكبيرة على المجتمع والأفراد.

صاحبة الرواية هي مارينا ستيبانوفا، الروائية والشاعرة والمحررة والمترجمة وكاتبة السيناريو، المولودة في مدينة يفريميف من مقاطعة تولا الروسية، الحائزة الدكتوراه في الترجمة من معهد غوركي للآداب العالمية في موسكو، والنائلة جائزة "الكتاب الكبير" عن روايتها الأولى "نساء أليعازر"، ما فتح أمامها باب الترجمة إلى عديد من اللغات الأوروبية.

شخوص ثلاثة

في روايتها، تتناول ستيبانوفا التحولات التي تطرأ على شخوص الرواية الرئيسة الثلاثة: الطبيب إيفان أغاريوف، وزوجته موظفة الاستقبال آنا بوسبيلوفا، وحبيبته مالا، التي لا تعمل. وهي شخوص تتعالق فيما بينها بعلاقتي الزواج والحب. تحفّ بها شخوص أخرى ثانوية تتعالق معها بعلاقات القرابة أو الزمالة أو الصداقة. تتحرك جميعاً في أمكنة وأزمنة معينة. وتتمخض عن هذه الحركة وتعالقاتها أحداث الرواية. تواكب ستيبانوفا الشخوص الثلاثة في مساراتها المتنوعة، ومصائرها المختلفة، ذلك أن لكل منها مساره الذي يتعاقب أو يتزامن أو يتقاطع مع مساري الآخرين. ولكل منها مصيره المترتب على ذلك المسار.

على أن ثمّة ما يجمع بين الشخوص الثلاثة في المنبع والمجرى والمصب. وثمة ما يفرق بينها. فهي تحمل أعطابها النفسية منذ الطفولة، وتعيش تصدعاتها المختلفة، وتتاح لها فرص لأم هذه التصدعات، فينجح بعضها في اغتنامها، ويعود البعض الآخر من الغنيمة بالإياب.

آليات دفاع

ينشأ إيفان أغاريوف في أسرة مفككة لأب مهندس دائم التوتر والصراخ، وأم مغلوبة على أمرها دائمة الصمت. يمعن الأب في لوم ابنه وتوبيخه، بمناسبة وغير مناسبة، فيزعزع ثقة الابن بنفسه، ويولد لديه شعوراً بذنب لم يرتكبه. وتلوذ الأم بالصمت، وتروح تذبل شيئاً فشيئاً حتى الموت. هكذا، يترجح أغاريوف بين أب متسلط وأم ضعيفة منطوية على نفسها، ما يُحدِث في داخله عطباً كبيراً. ويأتي تعثره الدراسي، ومعاناته النبذ المدرسي، واضطراره إلى دراسة الطب، وإطلاقه النار على فتى خلال خدمته العسكرية، ليزيد الطين بلة، ويضيف إلى ذلك العطب أعطاباً أخرى. في مواجهة هذه الوقائع، يلجأ أغاريوف إلى آليات دفاع معينة يستعيد بها توازنه المفقود، ويتخفف مما يثقل كاهله من الأعطاب، فينضم إلى نادٍ رياضي يُبلي فيه البلاء الحسن، ويحظى برضا أساتذته في كلية الطب، معوضاً به عن سخط أبيه الدائم، وينجح في عمله بعد التخرج، ويكسب ثقة الآلاف من المرضى، ويعيش حياة مستقرة، ويأتي زواجه من موظفة الاستقبال في العيادة التي يعمل فيها آنا بوسبيلوفا ليعزز هذا الاستقرار، على الرغم من أن العلاقة بينهما كانت أحادية الحب.

دروس إيطالية

غير أن تعرّفه المفاجئ إلى مالا يطيح هذا الاستقرار، ويشكل نقطة تحول في مجرى حياته، فتستدرجه إلى علاقة حب على الرغم من فارق العمر بينهما، ويترتب عليها انفصاله عن زوجته، وقيامهما معاً بزيارة لينينغراد الروسية واكتشاف توسكانا الإيطالية. وفي هذه الأخيرة، يتعرف إلى حبيبته أكثر فأكثر، وتلفته نوبات بكاء تجتاحها دون سابق إنذار، وتثير انتباهه تهيؤات تتراءى لها بين فترة وأخرى، ويكتشف أن لها جذوراً إيطالية من جهة الأم التي تتهم أباها بقتلها وهي في الخامسة من العمر، ويستخلص معها مجموعة دروس إيطالية، تتعلق باحترام أصحاب الحرف، وإتقان العمل، ورعاية المعمرين، والاهتمام بالمعتوهين، وإيمان الجميع بالمستقبل، وحق المشرد في السكن والحياة، ما بات يفتقده في موطنه الأصلي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل هذه الدروس المستخلصة هي التي حدت به إلى الأجابة عن سؤال الأوكرانيين في نهاية الرواية بالقول: "لم أعد روسياً. أنا صرت الآن مجرد إنسان" (ص 271)، في تعبير عن تحول أخير يطاول انتماء الشخصية. على أن تحولاً آخر يسبق هذا الأخير، يتمثل في إقدام مالا على الانتحار دون سابق إنذار، فيغرق أغاريوف في حزنه، ويقطع كل ما يمت بصله إلى وطنه الأصلي، ويعود إلى إيطاليا ليحرق تذكرتي وجوازي سفرهما، وينثر الرماد من على سور توسكانا تعويضاً عن عدم قدرته على تحقيق رغبة مالا بنثر رمادها في ذلك المكان. وبذلك، ينتهي أغاريوف وحيداً في توسكانا، وتتراءى له تهيؤات غير موجودة، تشي بإصابته بدرجة معينة من الشيزوفرينيا.

حلم مجهض

هذا المسار يتقاطع مع مسار آنا بوسبيلوفا في غير نقطة تقاطع، فهذه الأخيرة تنشأ بدورها في أسرة مفككة، مع فارق أن الأم المعلمة هي المتسلطة، هذه المرة، والأب المتخصص في مجال الأنتيكات هو المغلوب على أمره. لذلك، لم يستمر شهر عسلهما أكثر من سبعة أشهر، ينفصلان في نهايتها، لكنهما يبقيان تحت سقف واحد. وهكذا، تعيش آنا حياتين متوازيتين، لا تتقاطعان. يأخذها الأب إلى الأراجيح الدوارة، وتأخذها الأم إلى السيرك. ولعل توزعها بينهما يجعلها تعيش نوعاً من الشيزوفرينيا، تتوهم فيه رؤية أشياء غير موجودة. وتأتي وقائع مرضها، وعزلتها المدرسية، وصعوبة اندماجها في المجتمع، وتعرضها لمحاولة قتل، وتعرض أمها للنهب والاغتصاب، وموت أبيها، وفشلها في الدخول إلى المعهد الطبي لتحقيق حلمها في أن تصبح طبيبة، لتفاقم من حالتها، وتضاعف أعطابها الداخلية. وفي مواجهة هذه الوقائع، تعكف آنا على قراءة المطبوعات الطبية، وتلتحق ممرضةً بأحد المستشفيات، وتستقبل المرضى في عيادة خاصة، وتتزوج بالطبيب المشهور أغاريوف، فتعوض بهذه الآليات عن حلمها المجهض، وتستعيد توازنها المفقود، وتعيش حالة من الاستقرار الزوجي. غير أن تخلي الزوج الطبيب عنها، على الرغم من تفانيها في حبه وقيامها على خدمته، ليلتحق بحبيبته الطارئة، يشكل نقطة تحول حاد في مسار حياتها، تطيح استقرارها، وتتركها لمصيرها المحتوم.

مصير فاجع

على أن المسار الأكثر إيلاماً والمصير الأكثر قتامة في "الدروس الإيطالية" يعودان لمالا، الصبية الجميلة، الغامضة، التي يتمخض دخولها، طرفاً ثالثاً، على خط العلاقة بين الزوجين، عن نتائج وخيمة على الأطراف الثلاثة، وهو مسار يتقاطع مع المسارين الآخرين في أكثر من نقطة تقاطع، فمالا تنشأ في أسرة مفككة، بدورها، لأب غامض يقوم بأعمال غير مشروعة، وأم لا نعرف الكثير عنها سوى تعليم ابنتها صناعة البقلاوة. تطل في الخامسة من العمر، على اختفاء أمها المفاجئ، وتتهم لاحقاً الأب بقتلها، ما يولد في نفسها جرحاً غائراً، ويجعلها تعيش نوعاً من شيزوفرينيا، يتم التعبير عنها في نوبات بكاء مفاجئة، وتصور أشياء غير موجودة. ثم تطل في الرابعة والعشرين من العمر، صبية جميلة، في العيادة التي يعمل فيها أغاريوف، لتبدأ بعدها سلسلة من الأحداث، ينشأ خلالها حب بين المريضة والطبيب، ويقومان باكتشاف إيطاليا واستخلاص الدروس منها، وتنتهي بإقدام مالا على الانتحار في خطوة مفاجئة، وقيام أغاريوف بتنفيذ رغبتها في نثر الرماد في مدينة توسكانا. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أننا قلما نقع في الرواية على معلومات عن مالا بين سني الخامسة والرابعة والعشرين، ما يشكل انقطاعاً زمنياً طويلاً في هذا المسار.

وهكذا، نكون إزاء ثلاثة شخوص تحمل أعطابها الداخلية، منذ سنواتها الأولى، ما يترك آثاراً مدمرة على مساراتها المتعثرة، ومصائرها القاتمة. ولعل الدرس الأهم الذي نخرج به من "الدروس الإيطالية" هو أن الإنسان لا يمكنه أن يتحرر من طفولته. وأنه مهما أوغل في الحاضر، وتطلع إلى المستقبل، فإن الماضي سيكون له بالمرصاد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة