أثارت إقامة مهرجان بابل الدولي من جديد ضجة بدأت ولم تنتهِ بعد بين أنصار الحداثة والمجتمع المدني وبين "الولائيين"، الذين وجدوا فيه ما وصفوه بدعوة إلى الانحلال ومخالفة الشريعة، وأطلقوا ونظموا تظاهرات تطالب بوقفه، وشعارات تنادي بمعاقبة مرتكبي الغناء المخالف للمجتمع الإسلامي في الدولة العراقية.
عودة المهرجان سر الخلاف
احتدم الجدل والنقاش حول جدوى عودة المهرجان الذي توقف منذ 2003، لا سيما عقب إشاعة قرار محافظ بابل حسن القنديل الذي ألغى مضطراً الفعاليات الغنائية المرافقة بدواعي الاستجابة لضغوط من جهات دينية في المهرجان الذي دُعي إليه كثر من الفنانين العراقيين في الخارج وبعض الفنانين العرب، الذين وصلوا إلى بغداد خلال الأيام الماضية وقررت إدارة المهرجان اعتلاءهم المسرح البابلي ذا الشكل الروماني، الذي أُعيد ترميمه وبناؤه مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وشهد استضافة المئات من الفرق العالمية وقتها.
كما شهد المهرجان حملة غير مسبوقة من ناشطين وجّهوا وثيقة إلى اللجنة العليا للمهرجان وإلى الشركات الراعية تدعوها إلى إلغاء الفقرات الغنائية وجل الدعاة لذلك من طلبة العلوم الدينية وشخصيات اجتماعية، كما يوضح أحد الفاعلين لإنجاح المهرجان. لكن نُقل عن مدير المهرجان تأكيده "لا أحد سيتمكّن من عرقلة فعاليات المهرجان الغنائية، أو يوقف قيامه"، متحدثاً عن "تهديدات من جهات مختلفة وصلت إلى المحافظ أعلنت قطع الطرق نحو مكان المدينة الأثرية وموقع المهرجان القريب من مدينة الحلة مركز المحافظة، بدعوى أن المدينة هي مدينة الإمام الحسن".
وأوضح أن "الطلب جاء مستدلاً بالقدسية التي تحتويها المحافظة ومراقدها الدينية"، القريبة من كربلاء والنجف المقدستين عند الشيعة الإمامية، وتأتي هذه التهديدات ومحاولة إيقاف فعالية فنية غنائية في مهرجان دولي اعتاد العراق تنظيمه بغض النظر عن نظامه السياسي في بغداد، يقام في مدينة دولية مُدرجة على لائحة التراث العالمي لدى منظمة يونيسكو".
ويؤكد مدير المهرجان أن "مثل هذه التصرفات تمس سمعة المدينة الأثرية، والقرار الدولي بإدراجها على اللائحة العالمية"، حين استبشر العراقيون خيراً قبل أعوام قليلة لحظة إدراج "يونيسكو" لعدد من المواقع الأثرية والتاريخية العراقية على لائحة التراث العالمي، وفي مقدمتها بابل التي تضم الجنائن المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع.
مهرجان بدأ عام 1987
يعود تاريخ مهرجان بابل الدولي إلى عام 1987، حينها كانت الحرب (العراقية – الإيرانية) في أوجها، لكن الرئيس صدام حسين أصرّ آنذاك على إقامته بالرغم من تهديد الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي كانت تتساقط على المدن العراقية، في ما يُعرف بحرب المدن، حتى صار تقليداً سنوياً يستقدم مئات الفنانين العراقيين والعرب والفرق الأجنبية تحت شعار "من نبوخذ نصر إلى صدام حسين.. بابل تنهض من جديد"، وقصة نهوضها حكاية أطرت بإصدار صدام حسين قراراً لافتاً لاستظهار المدينة وبنائها من جديد، ما أثار غضب "يونيسكو" التي أخرجتها من قائمة التراث الإنساني وقتها لتغيّر طبيعتها الأثرية.
وعلى الرغم من الجو العدائي الحالي والاعتراضات من جهات دينية متعددة، فإن المهرجان أقيم الخميس الماضي على المدرج البابلي الكبير، وهو مسرح روماني ضخم، وسط المدينة الأثرية التي يعود تاريخها إلى الألف الثاني قبل الميلاد، زمن ملكها حمورابي، مؤسس السلالة الأولى لحكم البابليين، التي اشتهرت بحضارتها وأصبحت العاصمة العراقية العظمى على نهر الفرات. وظل المهرجان يقام لأعوام من (1987- 2003) ليكون عالمياً تشارك فيه الفرق الأولى من العالم العربي والدولي، ويتوافد عليه أبرز فناني العالم وتتبارى فوق مسارحه وقاعاته أهم الفرق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الغناء محرم بنظر رجال الدين
لكنه هذا العام اقتصر على الترفيه وتضمينه مشاركة مجموعة من المطربين العراقيين وبعض العرب، بينهم نوال الزغبي وشمس الكويتية، التي أحيت ليلة مميزة مع جمهور عراقي متفاعل جداً معها، ما أثار حفيظة جهات دينية، فنظّم عدد من رجال الدين اعتصاماً أمام أسوار مدينة بابل الأثرية، وفي مدينة الحلة مركز محافظة بابل لمنع العروض والمطالبة بوقفها باعتبارها إفساداً للمجتمع في مدينة مقدسة يطلقون عليها "مدينة الإمام الحسن"، التي لم يعتد المجتمع العراقي هذا التوصيف سابقاً، وادعاء أن الغناء محرم وهو خارج عرف الشريعة الإسلامية، وجاهروا في خطابات رنانة يطالبون بطرد المغنين والفنانين، ودعوا إلى اختصار الفعاليات على المهرجانات الخطابية والندوات الثقافية، إلا أن المدينة الأثرية شهدت جمهوراً عراقياً مدنياً بعشرات الآلاف، وقف للمتدينين بالمرصاد، من أجل حياة مدنية، وعدم السماح لرجال الدين بإملاء شروطهم على الفن والثقافة الغنائية. فحضروا إلى المسرح للاستمتاع بالغناء والطرب والرقص، غير مكترثين بمخاطر تعرضهم للصدام مع ميليشيات "ربع الله" التي نشرت قوات مسلحة متحركة جالت بغداد وبابل، أوحت بأنها ستحول دون قيام الفعاليات، لكن الدولة هي التي حالت دون وصولهم إلى المدينة التاريخية، وأقيم المهرجان على الرغم من كل الأصوات المطالبة بوقفه أو تغيير فعالياته.
مثقفون عراقيون يدينون أسلمة الدولة
وأثار موقف الممانعين لقيام مهرجان بابل الدولي حفيظة كتّاب وناشطين عراقيين مدنيين، عبّروا عن استنكارهم لما جرى. ويقول الكاتب حميد قاسم لـ"اندبندنت عربية"، "هل من السخرية في شيء أن يحدث هذا في بلد يفتخر بأن قيثارة وأكثرها شهرة قد اكتشفت فيه، وأعني أور؟ وقل مثل هذا عن العود البابلي! يحدث هذا في وقت ينفتح العالم على آفاق بلا حدود من التقدم والحريات، فيما يراد أن تُجرّ البلاد إلى هاوية الظلام والجهل والتخلف، بما يمثل إساءة إلى سماحة الدين ويسره، وهو ما يفضح رياء الجهات التي وقفت ضد المهرجان، وما نددت به حركات احتجاج متسترة بالدين وطقوسه، ولا أعرف كيف يتفق جلال أداء طقوس الصلاة في مدخل بابل مع فعالية حرق الإطارات الصبيانية؟ البلاد العريقة لا تموت. ربما تنتكس وتمرض ولكنها سرعان ما تنهض معافاة قوية، العابر يزول والأصيل والمنتمي للحياة يبقى".
لكن نديم الجابري، أستاذ العلوم السياسية، رأى ما يحدث في سياق آخر بقوله، "منذ 2003، تسعى جهات دينية إلى أسلمة الدولة العراقية عبر سلوك سياسي تعاطى مع الديمقراطية على أنها وسيلة للوصول إلى السلطة وليس تداولها. ومن هذا المنطلق، أدخلت مفاهيم ونصوص دينية في وثائق العملية السياسية، كما أنها شرعت في ترسيخ الشعائر والطقوس الدينية بشكل دائم، ولعل محاولة تلك الجهات إدخال الفقهاء في المحكمة الاتحادية تُعدّ أبرز معالم مشروع أسلمة الدولة. ومن هذا المنطلق، سعت جهات دينية إلى منع الغناء في مهرجان بابل مع أن قضية الغناء مختلَف عليها بين الفقهاء، فهناك من يحرّمه بذاته وهناك من يحرّمه بغيره، لذلك تُعدّ تلك الممارسات نكوصاً سياسياً يحاكي الأطروحة الثيوقراطية ومحاولة فرضها عنوة، الأمر الذي يتعارض مع مفهوم الدولة المدنية التي أخذ بها الدستور العراقي وتعززها التقاليد الاجتماعية".
والمفارقة كما يؤكد الكاتب حسين باجي الغزي في استجابة العراقيين، فيقول، "رافق ظهور المطربة اللبنانية نوال الزغبي جمهور ملأ المسرح البابلي ووقف خارجه بالمئات، وخلال دقائق من اعتلائها المسرح وصل عدد المعجبين بها إلى 5200 على يوتيوب وعلّق 3900 على حضورها". ويضيف ساخراً، "هل هذا استفتاء شعبي على رفض الظلام والتشدد ورموزه، أم عصيان لتعاليم السماء، أم عدم تشجيع للمنتج الوطني؟"، لكن زميله من ذي قار علي الحجامي يجيبه "لماذا يتم اختزال الفن الإنساني بالردح والغناء والميوعة للراقصات وعلى المسارح؟ نحتاج أن نتعلّم معنى الفن الحي الحقيقي".
مهرجان بابل عاد إلى المدينة الأثرية رغماً عن القوى التي أرادت أخذ البلاد إلى عوالم ليست من طبيعة المجتمع، والجمهور يتدفق كل يوم في عرس ثقافي فني، الأمر الذي يشير إلى أن "الفرح أقوى من الظلام، والحياة أبقى من الموت"، وفقاً لما عبّر عنه فنان عراقي أثناء دخوله المسرح البابلي.