هي بالتأكيد واحدة من تلك الروايات الكبرى التي صدرت خلال الربع الأول من القرن العشرين حاملة في آن معاً، متعة القراءة وعمق الفكرة وسعياً لجديد في عالم الرواية مستمداً من منابع تفكير غالباً ما يؤتى بها من خارج المركزية الأوروبية ولو أن كتابها غالباً ما كانوا من الأوروبيين. ونعرف أن قسماً من تلك الأعمال سيوصف بأنه استشراقي يحاول أن ينهل من منابع شرقية كما كان يفعل بيار لوتي مثلاً كوريث لتلك النزعة الرومانطيقية التي تجد جذورها في القرنين السابقين عليه. وفي هذا السياق غالباً ما اعتبرت رواية "سيدهارتا" للألماني هيرمان هيسّه رواية "استشراقية" تعبر عن مواضيع وقيم فكرية معلنة صراحة انبهارها بما هو شرقي – هندي هنا –؛ ولا سيما أنها أتت في وقت كان كل ما هو هندي ولا سيما حين يطاول حكمة ما، يجد صداه لدى القراء الألمان بخاصة. ونعرف بالطبع أن "سيدهارتا" صدرت في ألمانيا عام 1922، العام الذي بدأ فيه شعور عميق بالذل والمهانة يتحكم بقطاعات عريضة من الشعب الألماني من جراء الهزيمة ومعاهدة فرساي.
قراءات متعددة لحكاية واحدة
والحقيقة أن تلك الخلفية هي ما ساهم في جعل كبرى روايات هيسّه هذه تُقرأ على مستويات عدة، وتُستقبل بتنوّع في الفهم والتحليل يجعل من الضروري اليوم العودة إلى قراءتها من جديد في سعي لفهم أعمق. وذلك تحديداً بالنظر إلى أن "سيدهارتا"، حتى وإن كان لها طابع روائي في نهاية الأمر، هي كتاب متعدد الطبقات يمكن اعتباره في الأبرز من بينها كتاباً في الحكمة. بل حتى كتاباً في الفكر ربما كان هسّه يحاول فيه أن يرد على نوع من التلقي الغربي للفكر البوذي جعله يبدو وكأنه يدعو إنسان عصرنا الحديث إلى حياة من التقشف والتأمل تسير على هدي الفكر البوذي لتوصل المريد المتتبع لها إلى تلك "النيرفانا" المرتبطة بسعادة الوجود. لكن الحقيقة أن قراءة معمقة للرواية ستدفعنا في تحليل ربما يكون هرطوقيا بعض الشيء ويسير عكس التيار، إلى إلقاء نظرة مختلفة تعتبر الرواية نصاً أوروبياً خالصاً بأكثر كثيراً مما هو نص "هندي". بل ربما حتى "احتجاج أوروبي يقوم على تزكية الفكر التجريبي العملي" ويتصدى لتلك التأملية التي رُبطت بالبوذية خصوصاً وبالشرق بصورة أعمّ.
رحلة البحث عن معنى
من هنا لا بد من الانطلاق من فكرة أولية فحواها أنه لئن بدا هذا الكتاب عملاً أدبياً يسير بشكل ما على خط كتاب "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه، فإنه قابل لأن يعتبر أيضاً نوعاً من النص – المناوئ للنيتشوية، أسلوبياً على الأقل. غير أن أهميته لا تكمن هنا بل في أماكن أخرى بالتأكيد. ولنبادر هنا إلى التذكير بالخطوط العريضة لـ"حكاية" الكتاب. فهي تحدثنا عن الشاب سيدهارتا المقيم في مملكة كابيلافاستو الهندية القديمة في زمن المصلح غوتاما بوذا والذي يبارح دياره ذات يوم في مسعى منه للتحول إلى واحد من أولئك الفقراء الجوالين الذين يعيشون متقشفين لا مسعى لهم سوى بلوغ الحكمة المطلقة كمبرر للعيش وسبيل في الحياة. ويصحب سيدهارتا في ترحاله صديق طفولته غوفيندا. وإذ ينطلق الصديقان وقد تخلى كل منهما عن كل ما يمتلكه في حياته السابقة ولا همّ لهما الآن سوى البحث عما يتوقان إليه (ولا بد من الإشارة هنا إلى أن اسم سيدهارتا في حد ذاته يعني بشكل تقريبي "ذاك الذي وجد معنى للوجود")، وبخاصة البحث عن غوتاما بوذا والالتقاء به. وإذ يلتقيانه بالفعل يقر الإثنان بتألق أفكاره وتعاليمه وحكمته. ولكن، فيما ينضم غوفندا بالفعل إلى المريدين المحيطين ببوذا، يستنكف سيدهارتا عن ذلك. فالحال أن شكوكه كانت قد بدأت تتصاعد. وراح يرى أن تعاليم المعلم على حكمتها المطلقة قد لا تلائم كل شخص سواء بسواء. ولا تتماشى بالتأكيد مع الطبيعة البشرية لكل فرد، تلك الطبيعة التي بات سيدهارتا يدرك أنها تستند إلى تجارب حياتية يعيشها كل فرد من الأفراد ولا يمكن أن تتطابق مع طبيعة كل فرد آخر. بالتالي لا يبدو له منطقياً أن يعيش حياة تأملية ترتبط بفكر أحادي.
نجاح في المدينة
من هنا يقرر صاحبنا أن يتابع طريقه وحيداً متعمقاً في بحثه عن الحقيقة التي يتأكد من أنه لم يصل إليها بعد. وهكذا يصل إلى ضفة نهر يقيم عندها مراكبي يتولى نقل الناس إلى ضفة أخرى مقابل أجر. ولما كان سيدهارتا خالي الوفاض يوافق الرجل على نقله مجاناً قائلاً له أنه لا ريب سيعود إلى هنا مرة أخرى قاطعاً النهر من جديد فتلك هي طبيعة الحياة. والحقيقة أن هذه العبارة الأخيرة تفعل فعلها في ذهن سيدهارتا فيما هو بعد عبوره النهر يتابع طريقه في اتجاه المدينة راغباً في خوض تجربة العيش فيها قبل اتخاذ قرارات نهائية في حياته. وفي المدينة لن يلبث أن يتعرف إلى محظية تدعى كومالا ترصد وسامته وهدوء طبعه فتتنبأ له بحياة رغيدة وموسرة مقترحة عليه أن تعلمه فنون الحب. ويوافق هو على ذلك كما يجاريها حين تعرفه على تاجر ثري من معارفها يدعى كاما سوامي سرعان ما يدخله شريكاً في تجارته ويرتبط معه بصداقة عميقة. وهنا يكون النجاح حليفاً لصاحبنا، إذ يلجأ في معاملته مع الآخرين إلى صدق وبساطة وأريحية كان قد تعلمها من حياة تقشفه التي باتت من تجارب ماضيه الآن.
العودة إلى ضفة النهر
لكن سيدهارتا وفي لحظة صدق مع النفس يكتشف أن ما يعيشه الآن من يسر ليس سوى خواء لا يحقق له مسعاه الجوهري. وهكذا يتخلى عن كومالا وعن تجارته وعن حياة المدينة، ليعود من جديد إلى ضفة النهر حيث يجد المراكبي لا يزال في انتظاره بعد غياب كل تلك السنوات. ولا يلبث أن ينضم إليه ليعيش في المكان نفسه تجربة جديدة من تجارب حياته. ولكن ذات يوم ها هو شخص آخر ينضم إليهما من دون أن يتعرف إلى سيدهارتا، ولم يكن ذلك الوافد الجديد سوى غوفندا نفسه، الصديق القديم الذي أضحى الآن راهباً بوذياً يواصل عيش التقشف والتأمل مع شيء من القلق يستبد به ولكن بصورة متكتمة، ولا سيما حين يستمع إلى ذلك الإنسان البسيط فاسوديفا، المراكبي وهو يتحدث حديث الخبرة والتجربة عن الحياة ولكن خاصة عن النهر "ذي الوجوه والأصوات العديدة"، لكن مرور غوفندا هذه المرة سيكون مجرد مرور عابر غايته زرع الشكوك في أفكاره وهو سيعود إلى هنا ولو بعد سنوات طويلة. مهما يكن إلى تلك الضفة نفسها ستصل يوماً كومالا نفسها وقد أضحت مع مرور السنين عجوزاً يصحبها ابنها الذي سرعان ما سنعلم أنه ابن سيدهارتا أيضاً، كما نعلم أنها هي الأخرى الآن وقد انضمت إلى أفكار بوذا تسعى إلى لقائه بحثاً عن الحكمة تختم بها حياتها. وهنا إذ يلتئم شمل الجميع، ويتعرف سيدهارتا في الفتى المتمرد المشاكس على ابن له، تموت كومالا تاركة الولد في عهدة أبيه وهكذا يخوض صاحبنا تجربة إضافية في حياته سيسمها هروب الولد بعيداً ما يراكم تجارب حياة سيدهارتا فوق بعضها البعض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التجريبية ضد فكر التأمل المتقشف
بعد سنوات، وإذ بات سيدهارتا بدوره مراكبياً وقد تقلص بحثه إلى مجرد بحث عن ابنه يعود غوفندا عجوزاً ولا يتعرف في المراكبي الجديد إلى صديقه القديم. لكنه حين يتعرف إليه ويجاذبه الحديث يطلب منه أن يحدثه عن حكمة العيش التي توصّل إليها ليجيبه الآخر بأن الشيء الجوهري الذي بات اليوم متيقناً منه إنما هو أن لكل ظرف وضعيته الخاصة ولكل موقف ما يناقضه من دون أن يكون الموقفان مخطئين. وهو ما يتناقض جذرياً مع تلك اليقينية التي يحملها فكر تأملي جامد يقولب الناس والحياة مرة واحدة وإلى الأبد. بالتالي فإن ما توصل إليه سيدهارتا هنا إنما هو ضرورة أن يؤمن الناس بتنوعية الحياة ولا نهائية الأزمنة والأفكار. وهنا أمام هذا المنطق المتسم باتباع تجريبية جديدة من نوعها، يخر غوفندا على ركبتيه طالباً من صديقه القديم ومعلمه الجديد هذا أن يقبله في جبينه علامة على انضمامه إليه إثر تفسيره الدينامي هذا للوجود، فيفعل سيدهارتا مبتسماً شاعراً أنه وجد أخيراً ما كان يسعى إليه طوال حياته، لكنه وجده في تجاربه وليس في تأملاته بالطبع...