المكابرة التي يمارسها النظام الإيراني في التعامل مع الأزمات التي تحيط به، لم تمنع الأوساط المعنية في الداخل، سواء الممسكون بالسلطة أثناء رئاسة حسن روحاني وبعد سيطرتهم على رئاسة الجمهورية، أو أوساط القوى التي يمكن تسميتها بالمعارضة ومعها المراقبون السياسيون، من الاعتراف علناً أو تلميحاً أن حل الأزمات الإيرانية المتراكمة والمستمرة منذ أربعة عقود، يمر من بوابة الحوار والتفاهم مع الخصم التاريخي الحميم، الولايات المتحدة.
وهذه القناعة غير المعلنة، التي يتراوح الحديث عنها بين الهمس والمجاهرة، معززة بشواهد كثيرة ومفصلية، من "إيران كونترا" التي وعلى الرغم من الجدل حولها أسهمت في إدخال تغيير على المعادلة العسكرية في الحرب العراقية- الإيرانية، وليس آخرها الآثار المالية والاقتصادية التي حصلت عليها من واشنطن بعد توقيع الاتفاق النووي مع مجموعة "5+1" في يوليو (تموز) 2015.
عقدة العملية العسكرية
عام 2018، أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عام 2018 الانسحاب من الاتفاق النووي والعودة إلى سياسة العقوبات الاقتصادية الخانقة، بهدف إجبار إيران على تعديل اتفاق 2015 أو الذهاب إلى اتفاق جديد حول البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي وأطر ومجالات التعاون الاقتصادي المباشر وفتح الباب أمام الاستثمارات الأميركية في إيران، تمهد لتطبيع العلاقات بين البلدين. وعلى الرغم من كل هذه الضغوط التي مارسها ترمب، فإن الطرفين لم تهتز قناعتهما بالمآلات التي يجب أن تكون عليها العلاقة بينهما، خصوصاً داخل النظام الإيراني، الذي يحاول الوصول إلى هذه النقطة من خلال وضع شروط تسهم في تعزيز ثقته بتخلي واشنطن عن استراتيجية التخلص من النظام الإسلامي، وضرورة التفاهم مع طهران بالاعتراف بأدوارها خارج حدودها ونفوذها في منطقة غرب آسيا. وأن الحصول على هذا الاعتراف الذي يمر من بوابة الضمانات الرسمية من الكونغرس بعدم الانسحاب من الاتفاق النووي في المستقبل، ستسمح للنظام الإيراني بتجاوز عقدة العملية العسكرية التي نفذتها القوات الأميركية بأوامر وإشراف مباشر من ترمب وأدت إلى اغتيال رأس مشروع النظام في الداخل والمنطقة قائد قوة القدس في حرس الثورة قاسم سليماني في بغداد مطلع عام 2020.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا شك أن التجربة الإيرانية مع عقوبات إدارة ترمب الجمهورية والتي ما زالت مستمرة مع الرئيس الديمقراطي جو بايدن، كانت قاسية على صعيد الأزمات التي تسببت بها والحصار الشامل الذي ترزح تحته اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً، بحيث أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية التي شددتها جائحة كورونا وتخبط الدولة في اجتراح المعالجات، إضافة إلى شبه عزلة دولية سياسية لم يبق منها سوى النافذة المفتوحة بصعوبة على بعض الدول. وهي نافذة ليست بعيدة عن العراقيل والمحاذير وما فيها من تحديات استكمال الحصار نتيجة صراع المصالح، مثل روسيا والصين والعراق وسوريا وفنزويلا ولبنان.
وهذا ما يضع النظام في طهران أمام تحدي اتخاذ خطوة حاسمة في اتجاه تفكيك هذه العقد، حيث يشكل الموقف من المفاوضات النووية المدخل الرئيس إلى تخفيف إطباق قبضة العقوبات عنه، بخاصة أن كل الجهود التي يبذلها لكسر الجمود في علاقاته الإقليمية والانفتاح على دول الجوار العربي وتثمير الحوارات القائمة بينه وبين السعودية، تمر عبر طاولة التفاوض حول البرنامج النووي وإعادة إحياء اتفاق فيينا.
أزمات حدودية
هذه الأزمات، تفاقمت مع التطورات التي شهدتها الحدود الشمالية الغربية بعد التحركات الأذربيجانية على خط الحدود المشتركة بين إيران وعمقها في القوقاز الجنوبي، بحيث شكلت تهديداً حقيقياً لمصالح طهران الجيواقتصادية باتجاه أوروبا، فضلاً عما تشكله من خطر في تكريس تغييرات جيوسياسية في هذه المنطقة. وهي أزمة تصاعدت مع بروز التحدي الذي شهدته حدودها الشرقية مع أفغانستان، بعد الانسحاب الأميركي وسيطرة حركة "طالبان" على السلطة في هذا البلد. وقد زادت التحديات الآتية من حدودها الجنوبية والغربية الأمور تعقيداً أمام طهران، بعد نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية وما كشفت عنه من إزاحات في موازين القوى على حساب الأحزاب والفصائل الموالية لها والمتحالفة معها. في حين تمر الساحة السورية في مرحلة شد كبير نتيجة محاولات اللاعب الروسي رسم حدود نفوذ ودور شريكه الإيراني، استجابة لضغوط دولية وإقليمية.
المماطلة التي تسميها طهران "تريثاً" في الاستجابة للدعوات الأوروبية والأميركية المطالبة بالعودة إلى طاولة التفاوض بهدف إحياء الاتفاق النووي، أعطت كثيراً من السياسيين والمراقبين المعنيين بهذا الملف وتداعياته الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية على إيران، الجرأة لرفع الصوت عالياً مطالبين بعدم تفويت الفرصة لإخراج إيران من عنق الزجاجة التي وضعتها فيها العقوبات الأميركية وعدم استجابة الدول الأخرى للتعامل مع إيران من خارج الإرادة الأميركية ومفاعيل الاتفاق النووي، معتبرين أن استراتيجية التوجه نحو الشرق (روسيا والصين) لا تعتبر مخرجاً أو منقذاً، لجهة أن هذه الدول لا تستطيع المخاطرة بمصالحها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية مع المجتمع الدولي لحساب إيران، ما يرفع من مستويات الخوف بأن تدخل طهران في نفق التجربة الكورية الشمالية.
التفتيش عن مخرج أو سلم لينزل عنه النظام في تعامله مع المفاوضات النووية، يبدو أنه بات الهاجس الأساس لفريق الرئيس الجديد التفاوضي، الذي يحاول الالتفاف على دعوات العودة إلى فيينا باجتراح محطة على الطريق من خلال حوارات ينوي إجراءها مع الاتحاد الأوروبي في بروكسل تكون تمهيداً للانتقال من جديد إلى فيينا، التي من المتوقع أن تكون حاسمة من الطرف الأميركي الذي يضغط لفتح باب التفاوض المباشر وليس عبر الوسيط تمثله مجموعة 4+1 هذه المرة.
قد تكون التجربة الأفغانية والحوارات التي قامت بها حركة "طالبان" مع الإدارة الأميركية مدخلاً يمكن للنظام الإيراني البناء عليه في حواراته مع واشنطن، خصوصاً أنه يدرك أن باب الحصول على ما يريده لا بد أن يمر عبر البيت الأبيض، سواء في الموضوع النووي أو الدور الإقليمي. فـ"طالبان" مع احتفاظها بالموقف العدائي العلني مع واشنطن، إلا أنها من خلال المفاوضات الطويلة والمعقدة والمركبة التي أجرتها مع الإدارة الأميركية، استطاعت انتزاع قرار الانسحاب والاتفاق على إقامة إمارة إسلامية في أفغانستان (التي لا تعترف بها الولايات المتحدة – حسب نص اتفاق الدوحة). إلا أنها وعلى الرغم من سيطرتها على السلطة لم تحصل على اعتراف دولي بها، بانتظار الإشارة الأميركية. فهل ستشهد المرحلة المقبلة تطوراً دراماتيكياً في كسر جليد التفاوض المباشر، وتكون المنطقة أمام تداعيات هذا التطور؟