بعدما اغتال هتلر في إحدى قاعات السينما الباريسية، في فيلمه "أوغاد بلا مجد"، عاد المخرج الأميركي المشاكس، كونتن ترانتينو، إلى ممارسة هوايته الأثيرة في إعادة كتابة أحداث التاريخ بأثر رجعي. في فيلمه الجديد "كان يا ما كان في هوليوود"، الذي شكّل إحدى المحطات الأبرز في الدورة الحالية من مهرجان كان السينمائي، قام ترانتينو بإنقاذ النجمة السينمائية شارون تيت من طائفة تشارلز مونسون المتطرفة، التي اغتالتها بشكل بشع، في العام 1969، وهي حامل في الشهر الثامن من زوجها المخرج البولندي رومان بولنسكي.
حادثة اغتيال شارون تيت شكّلت منعطفاً مفصلياً في التاريخ الأميركي الحديث، من حيث أنها كانت إيذاناً بنهاية "حقبة البراءة". إذ وضعت حداً لحركة الهيبيز التي انبثقت منها طائفة مونسون. فالنقمة على النمط الاجتماعي الاستهلاكي الغربي جعلت مانسون واتباعه ينساقون إلى منحى شيطاني انحرف بهم من النزعة التحررية المسالمة، التي طبعت حركة الهيبيز في بداياتها، إلى العنف العدمي ذي الطابع الإرهابي.
أراد ترانتينو الانطلاق من واقعة اغتيال شارون تيت، لرصد ذلك التحول الحاصل في المجتمع الأميركي، أواخر ستينيات القرن الماضي، من زاوية تزامنه مع نهاية "الحقبة الذهبية" في "هوليوود". لكنه سرعان ما غرق في نزعة شكلانية جعلت فيلمه يتخبط طوال القسم الأول منه، على مدى أكثر من ساعة، في تهويمات تأملية جعلته أقرب إلى تحقيق تلفزيوني عن "هوليوود" الستينيات منه إلى عمل سينمائي لمخرج من مصاف ترانتينو.
لم يشفع للفيلم الحضور المميز لنجمين متألقين مثل ليوناردو ديكابريو وبراد بيت. إذ لم تظهر البصمة الفنية لترانتينو، سوى حين يغادر بطلاه "هوليوود" الغارقة في الأزمة، للانتقال- على مضض- إلى روما لتصوير عدد من أفلام الـ"ويسترن سباغيتي". ظهور النجم آل باتشينو، كضيف شرف في الفيلم، في دور منتج سينمائي إيطالي يقنع ديكابريو وبيت بالانتقال إلى روما، أخرج الفيلم من رتابته. وإذا بترانتينو يستعيد توهجه الفني، مطلقاً العنان لمخيلته الخصبة، ليبدع سلسلة مبهرة من المقالب والقفشات الكوميدية الفاقعة، ممارساً نوعاً من التناص الذاتي مع بعض روائعه الأشهر، من Pulp Fiction ("السعفة الذهبية" في كان– 1994) إلى "أوغاد بلا مجد" (2009)، مروراً بـ"جاكي براون" (1997) وKill Bill (جائزة "إمباير أورادز" لأفضل مخرج– 2004).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي اللحظة التي يترقب فيها المشاهد أن يعرف الفيلم نهاية تراجيدية بجريمة مقتل شارون تيت على يد طائفة مونسون، يراوغه ترانتينو على نحو مفاجئ، مغيراً مجرى الأحداث، ليجعل بطليه براد بيت وليوناردو ديكابريو، اللذين يقطنان في الفيلم بيتاً مجاوراً لبيت الممثلة، يتدخلان لإنقاذها، وينتقمان من الجناة بطريقة لا تقل بشاعة ودموية عن الجريمة التي اقترفوها في حق النجمة الراحلة في الواقع الفعلي.
نهاية تراجي - كوميدية أنست المشاهدين رتابة القسم الأول من الفيلم. رتابة يغفرها لترانتينو كون العمل لم يكن جاهزاً حين أُعلن عن البرنامج الرسمي لهذه الدورة من مهرجان كان، ثم أُلحق بالبرنامج في اللحظة الأخيرة، نزولاً عند إلحاح إدارة المهرجان، التي راهنت على حضور كوكبة النجوم الأميركيين المشاركين في الفيلم، لاستقطاب الجمهور في الاستعراض الفني المرافق للعروض على البساط الأحمر. ما دفع ترانتينو إلى توجيه كلمة إلى النقاد والصحافيين، قبل بدء كل عرض، راجياً منهم الرأفة بفيلمه، لأن النسخة المقدّمة ليست مكتملة. إذ يعتزم المخرج إعادة مونتاج الفيلم قبل طرحه في قاعات العرض التجارية.