حين نتأمل ما يجري في فرنسا من نقاشات ثقافية واجتماعية تدخل في إطار مرحلة التسخين السياسي الذي يسبق الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتي لم يبق عليها سوى سبعة أشهر، نشعر بأن المشهد السياسي يشهد انقلاباً يكاد يكون جذرياً، فالبلد يعيش غروب مرحلة من التنظيم السياسي الكلاسيكي ليدخل مرحلة مغايرة تماماً، فالمواطن تحرر أو على وشك، من المفهوم الكلاسيكي الذي درج عليه في استقبال المواعيد السياسية الموزعة ما بين اليمين واليسار.
كل شيء تغير، الخطاب والمعنى وحاملهما أيضاً، ويتميز هذا التغيير الانقلابي بظاهرة زحف الثقافة والمثقف على السياسي والحزبي، ويظهر ذلك ببداية تشكيل مركزية المثقف وهامشية السياسي، أولوية الحوار الفكري المتحرر وهامشية أيديولوجيا مؤسسة الحزب المنغلق.
إننا نعيش مفصلاً تاريخياً جديداً تعرفه المجتمعات في علاقتها بالأفكار والفلسفات من جهة، والمؤسسات الحزبية الأيديولوجية بمفهومها وتنظيمها التقليديين من جهة ثانية.
هي صفحة تاريخية جديدة تفتح وتقرأ، ويبدو حيالها المواطن الأوروبي بشكل عام وقد بدأ يتحرر من قفص "الحزب" ليجرب أفق "المثقف" الفرد المغامر.
لم يعد هذا المواطن مقتنعاً بخطاب الأحزاب التقليدية التي مهما حاولت تغيير جلد أسمائها إلا أنها تظل رهينة الأيديولوجيا بكل جمودها وعصبيتها، ولم تعد تقنعه خطب الشخصيات السياسية الباحثة عن الزعامة التقليدية التي فيها كثير من خصائص "الزعيم الديني أو القبلي" الذي صنعته مؤسسات وأيديولوجيات تعود إلى منتصف القرن الماضي.
لقد تغيرت سيكولوجية المواطن ومعه تغير أفق الاستقبال السياسي، فالمواطن أخذ مكان المناضل.
المواطن عينه على الواقع والعيش المشترك، والمناضل عينه على المؤسسة والتنافس السياسي، لذا أصبح المواطن ينتظر الخطاب الذي يقرأ الوقائع اليومية بلغة أخرى غير لغة الديماغوجيا والمواسم السياسية.
هي لحظة وعي تاريخية جديدة تشهدها المجتمعات الأوروبية في ظل تغير مفهوم الجغرافيا والحدود والهويات واللغات، والتي تجعل من المواطن الرأسمال الأساس بدلاً من المناضل بمفهومه الخمسيني، أي ذلك المرتبط بمفاهيم "الالتزام".
في مثل هذه المرحلة التي بدأ فيها المثقف الأوروبي المتحرر يُهمش أو يُغيب السياسي المحترف، وتحت حمى توتر وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة والمتغيرة باستمرار وبجنون، ومعها تتغير اللغة ومفهوم المسافة ومفهوم الزمن، وتتغير بموجبها القيم الإنسانية مثل الصداقة والنضال والحب والزواج والتربية والسفر والهوية، بدأ المواطن البحث عن خطاب جديد لقراءة ما يعيشه وما يعترضه يومياً في الحي والدين والهجرة واللغة والميترو والرصيف والمقهى والمسرح والمدرسة والعملة والأمن والرقابة والوطنية.
لم يعد الكلام العام والفضفاض عن "البطالة" وعن "تدني مستوى الدخل الفردي" الذي لطالما كرره، ومع كل موعد انتخابي، خطاب السياسي المحترف، وليد المؤسسة الحزبية التقليدية كافياً لإقناع المواطن اليوم، فهذا المواطن يبحث عن خطاب مقنع جديد متحرر يقرأ مشاغل الناس باجتهاد فردي، وهذا لن يأتي إلا من المثقف المستقل عن المؤسسة الحزبية الكسيحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد انتهى زمن السياسي "النبي" وانتهى زمن المناضل "الصنديد"، ودخل العالم في مرحلة "المثقف المجتهد" ودخل أيضاً في مرحلة "المواطن" الباحث عن حياة أفضل وكرامة وحرية.
هل سيتحول المثقف إلى مؤسسة جديدة مفتوحة؟
بعد انهيار صورة الحزب، وإخفاق الخطاب الجمعوي الحزبي المعلّق ما بين اليمين التقليدي واليساري التقليدي النازلين من سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ها هو التاريخ يحسم ويعلن نهاية "المؤسسة الحزبية" التقليدية، ومعها نهاية الزعيم التقليدي الذي أنتجه الحزب التقليدي، والتراتبية التقليدية التي هي في نهاية المطاف تراتبية كنسية دينية، وفي ضوء هذا الطرح يمكن مقاربة صعود ظاهرة المثقف والإعلامي الفرنسي إيريك زمور" ذي الأصول الجزائرية في الخريطة السياسية الفرنسية الجديدة، والذي خلط كل الأوراق داخل معسكر اليمين الفرنسي من معتدليه إلى متطرفيه، وصولاً إلى اليمين المالي البنكي مروراً باليسار الإسلامي أو اليسار الإيكولوجي أو اليسار التقليدي المحتضر.
المواطن الذي يمنح بعض وقته للسياسة يريد أن يسمع كلاماً جديداً في الأدب وفي التاريخ وفي الأسطورة، متقاطعاً مع واقع الاقتصاد والأمن والعمل والتعليم والهوية والهجرة والآخر، فلم يعد هناك ما يدعو إلى دفن بعض القضايا حية لأن وأدها لا ينهيها.
وعلى الرغم من مواقفه المثيرة للجدل وأطروحاته المميزة بالتطرف في كثير منها، نجح إيريك زمور في إثارة النقاش حول مواضيع ظل السياسيون التقليديون يتحرجون من التعرض إليها، ونجح في ذلك لأنه مثقف مهما اختلفنا معه، إلا أنه يخاطب الناس بمشكلاتهم اليومية من خلال أدبهم وتاريخ ملوكهم وكنائسهم وطعامهم ولغتهم وثقافتهم.
في طبيعة علاقة المثقف بالسياسي في العالم العربي
في الوقت الذي يحاول فيه السياسي الأوروبي الذهاب نحو اعتناق صورة "المثقف" كبديل مجتهد يبحث عن حلول للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية، نجد المثقف في العالم العربي وفي بلدان شمال أفريقيا كلما انشغل بالسياسة أو اشتغل بالشأن العام يتنازل عن كينونته "كمثقف" يحمل اجتهادات فردية إيجابية، ليقلد صورة السياسي التقليدي الحزبي الذي عفا عليه الدهر، ولعل في تجربة المثقف الدكتور برهان غليون، حين تولى قيادة المعارضة السورية في فترة معينة، ما يؤكد هذا التحليل، إذ وجدناه يعود إلى تقاليد الخمسينيات في الخطاب السياسي الباحث عن التموقع، لا إبداء الاجتهاد الحر، بل أصبح في السياسة مثل "جواب الراعي على الراعية" (La réponse du berger à la bergère) كما يقول المثل الفرنسي.
من هنا فنموذج النجاح في رأي المثقف في العالم العربي هو "السياسي"، في حين يرى السياسي في أوروبا الراهنة بأن نموذج النجاح لديه هو "المثقف"، وبطبيعة الحال ليس أي مثقف.
ولأن المجتمع العربي والمغاربي رُكب تبعاً لمقاسات سياسية تقليدية وأيديولوجيات بالية مزكومة لا تزال هي المتحكمة في مصيره، وأن مصيره لا يزال رهين المخيال الحزبي التقليدي الذي هو في نهاية المطاف منتج لصورة الزعيم السياسي بمفهومه القبلي والجهوي والديني، في هذا المجتمع كلما ظهر سياسي يتبنى في أطروحاته هواجس "المثقف" المجتهد والمستقل في أفكاره، المدافع عن قناعته والمتحرر من ثقل الخطاب التقليدي، كما هي حال الدكتور سعيد سعدي، الكاتب والروائي ومؤسس حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية في الجزائر ورئيسه السابق، فإن هذا النموذج يلقى الرفض والتهميش الذي قد يصل إلى حد التخوين والتكفير.