Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هربرت ماركوز فيلسوف ثورة الشباب يجدد مفهوم الشغف بالحياة

قرأ فرويد ماركسياً وماركس فرويدياً وعالج مأساة الإنسان "الوحيد المدى"

الفيلسوف الألماني هربرت ماكوز (موقع فلاسفة)

درس الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز (يُكتب بالألمانية ويُلفظ ماركوزه 1898-1979) على يد هايدغر (1889-1976) في جامعة فرايبورغ، فتأثر بالمذهب الفنومنولوجي تأثراً أفضى به إلى إعادة صوغ الماركسية بالاستناد إلى مكتسبات الأنطولوجيا والأنثروبولوجيا. من بعد أن كان من الناشطين المؤسسين في معهد الأبحاث الاجتماعية في فرانكفورت، هاجر عام 1934 إلى الولايات المتحدة الأميركية، وأقام فيها حتى آخر حياته يدرس في جامعات كولومبيا وهارفرد وبوسطن وسان دييغو في كاليفورنيا. وأنهى حياته في هذه المقاطعة من بعد أن أصبح "فيلسوف ثورة الشباب"، و"معبود اليسار الشبابي"، بحسب العبارات التي استخدمها يورغن هابرماس (1929-...) في وصف المفكر الذي أحبه وامتدحه، وما لبث أن انتقد الصورة الدعائية الإعلانية التي انتشرت لماركوز في وسائل التواصل.

الحقيقة أن هذا الفيلسوف المنتمي إلى الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت النقدية ارتبط اسمه بحركات الاحتجاج الفكري والطالبي التي اجتاحت أوروبا والولايات المتحدة الأميركية في مطلع الستينيات من القرن العشرين. وعلاوة على ذلك، يتجلى فكره في اجتهاد الجمع والتوفيق بين علم النفس التحليلي والماركسية الظافرة على امتداد عقدين من الزمن، ابتداءً من منتصف القرن العشرين (1950-1970)، ذلك بأنه من الفلاسفة اليساريين الأُول الذين استكشفوا الجذور الفكرية المشتركة التي يغتذي منها ماركس (1818-1883)، وفرويد (1856-1939)، مستعيناً بالجدلية الهيغلية وبمقاربتها السلبية التي أتاحت له أن يصوغ نظريته في النقد الاجتماعي.

الاغتراب الماركسي وتصويب معالجته نفسياً

من الأمثلة على ذلك أنه في كتاب "الإيروس والحضارة" يفسر النظرية الماركسية تفسيراً يستند فيه إلى تصور فرويد الذي يرسم أن الاستلاب، أو الاغتراب (Entfremdung)، سببه قمع مبدأ اللذة. معنى التفسير الفرويدي هذا أن المجتمعات الرأسمالية المتقدمة تعمد إلى كبت النوازع البشرية وضبطها بواسطة فرض مبدأ الانتساب العقلاني إلى الواقع والائمتار به، ومبدأ تعزيز الإنجازية والإنتاجية. فالإنسان ينبغي له أن يقهر ميوله ورغباته حتى يستخرج كل طاقاته الدفينة ويستثمرها في سبيل خدمة الإنتاج.

في مجتمعات الفيض الإنتاجي والإسراف الاستهلاكي، يكف التصنيع عن تلبية حاجات الناس الأساسية، فيغرق النظام الليبرالي في متاهة التجويد المادي الأجوف، مستحدثاً حاجات وهمية نافلة. من جراء هذا كله، ينجرف الإنسان في تناقضات مشاعر الإشباع وأحاسيس الحرمان، إذ كلما لبى رغبةً مصطنعةً انتابته حاجة حرمانية مفتعلة.

تصحيح التحليل الفرويدي

في مقابل التصويب الفرويدي هذا، يجتهد ماركوز في تعديل التصور الفرويدي نفسه الذي يراه قائماً على خلفية أيديولوجية بورجوازية نموذجية مكتومة، ذلك بأن الواقع ينبغي أن نفسره بواسطة التاريخ تفسيراً نسبياً لا أحكام مطلقة فيه. فالتصعيد (Sublimierung) التجمليي الذي يستخدمه فرويد وسيلةً من وسائل فهم الانتقال إلى طور الحضارة الراقية ينبغي أن نضعه في سياق القرائن الاجتماعية والاقتصادية الصحيحة الملائمة. لا يكفي أن نعلل رقي الناس بالاستناد إلى حرصهم على الارتقاء بغرائزهم السفلية إلى مستوى الرغبات الرفيعة. يجب بالأحرى أن ندرك العلاقات الاجتماعية - الاقتصادية عنصراً أصلياً تأسيسياً في نشوء الحضارات الإنسانية.

ومن ثم، فإن الإنسان ليس كياناً ثابتاً سرمدياً نستطيع بسهولة أن نكيفه بواسطة الإجراءات العلاجية النفسية المناسبة حتى يستقيم انتماؤه إلى المجتمع الذي لا ينفك يقمع غرائزه. من الضروري أن نغير هذا المجتمع في أسسه وبناه وهيئاته حين يتبين لنا أن التصعيد التجميلي يسلبنا هويتنا، ويفقدنا مقامنا، ويقمع فينا أسمى طاقاتنا الإنسانية الإبداعية.

طاقات الإروس الجمالي الخلاق

وعليه، ينبغي لنا أن نستعيد طاقات الإروس (Éros) الخلاق، فنحرره من الانحرافات الجنسية التي شوهت طبيعته الجمالية الأصلية. فالإروس طاقة حب وفن وجمال وسمو وإبداع. فليس قمع الغرائز الحل الأوحد، إذ يحلو لنا أن نتصور ثقافةً لا تقمع الإروس الأصلي السليم، بل تخرجنا من حال الفقر المعنوي التي تجعلنا نستهين الإنسان، ونشوه مفهوم السعادة، ونتضجر من العمل. من مفارقات مجتمع الانحطاط الأخلاقي أننا فيه نستهلك كل شيء استهلاك التبذير والتبديد حتى إننا نقمع الإروس الحياتي قمعاً مؤذياً يجر علينا آفات التسويق البورنوغرافي المتفلت والتسليع الجنسي المقيت. حقيقة الأمر أن المكبوتات الجنسية تتحول إلى أغراض تجارية وسلع تسويقية تشوه طبيعة الحاجة الجنسية المنبثقة من إيروس عشق الحياة. فيفضي بنا الأمر إلى الخضوع لآليات الاستغلال السوقي العقيمة. في كتاب "الإنسان الوحيد المدى" (Der eindimensionale Mensch)، يبين لنا ماركوز أن الجنس فقد رونقه الاجتذابي: "إن تكثف الطاقة الإروسية الشغفية في حسيات الأعضاء التناسلية يصد الإيروس عن تجاوز المستوى الحسي إلى قطاعات أخرى من الجسد وإلى بيئته الحاضنة، ويكبل قوته الاجتماعية الثورية الإنشائية".

لا بد، والحال هذه، من تهذيب الغرائز وصقلها وتغيير عملها حتى نستطيع أن نغير المجتمع. ويتطلب ذلك كله منا أن نقوم اعوجاج العلاقات الإنسانية ونعالجها ونشفيها من أسقامها. ومن ثم، ينبغي لنا أن نحرر الحاجات الجمالية فينا، مستعيدين أصلها البيولوجي السليم، ذلك بأن الجمال والانسجام والتناغم والسكينة حاجات عضوية لصيقة بكياننا الإنساني. فطاقات الحياة الناشبة فينا لا تنتعش وتتحقق إلا على قدر ما تمنح وجودنا وحدته الكيانية وقيمته المعنوية. وعليه، لا تستقيم الثورة وتثمر ثمراً شهياً إلا إذا كانت ثورة إيروسية، شغفية، عشقية، افتتانية، جمالية، تضرم نار الحب الخلاق في ثنايا الوجدان وضلوع الجسد.

أزمة الثورات في المجتمعات الحديثة

في هذا السياق ينتقد ماركوز التباس معاني الثورات الراهنة، وضآلة المضامين المثالية التي تنطوي عليها. الثورات المعاصرة في أزمة بنيوية حادة، إذ إن المجتمعات الصناعية، من بعد أن منحت الإنسان بحبوحة العيش وسيّجت مدينته بنظام ديمقراطي شكلي إجرائي محض، جردت مثال الثورة من طاقات الإيروس الخلاقة والرغبة الشغفية المتوهجة بعشق الحياة. فتحولت إلى مجتمعات مغلقة، تروض الحياة، وتهيمن على جميع أبعادها وأمدائها. فتسيطر على الوعي، وتسخر طاقات اللاوعي التفجيرية الإبداعية في خدمة مصالح الأنظومة، حتى إن الحلم والفن والجنس وكل ضروب المقاومة الثقافية تمسي خاضعةً لصدارة الانتظام البنيوي العام. من مفارقات هذه المجتمعات أنها غلبت حتى الحرية، فحولتها خلسةً إلى إداة قديرة للتسلط المنهجي المموه (ماركوز، "الثقافة والمجتمع"). ومن ثم، فإن الاقتدار السلبي في المخالفة والمناهضة والمقاومة والانتهاك أصبح عاملاً فاعلاً في ضبط الوئام الاجتماعي والانتظام السياسي العام. لا عجب، والحال هذه، من أن تغدو الثقافة عينها وحيدة المدى، تنحو منحى الإسراف القهري والمغالاة في الانضباط الذاتي. فتفقد بذلك قدرتها على الابتعاد النقدي، والتجاوز التقويمي، والارتقاء الإبداعي. أصل البلاء الثقافي هذا ناشب في تشويه طبيعة العقل نفسه، إذ أضحى عقلاً أداتياً، تقنياً، إدارياً، حساباً، منفعياً، لا يطيق مواجهة طوارئ المعنى الآتية من خارج فضاء المألوف السائد. يتهكم ماركوز فيسخر من مثل هذا العقل الذي يجعل المجتمع متحرراً، استباحياً، استماحياً، ولكن في حدود الترويض القعمي الذي أنزله العقل به.

ما السبيل إذاً إلى الانعتاق من الأزمة الثقافية الخانقة؟ جواب ماركوز المحرج أن الجماهير لن تقوى على الانتفاض والنهوض والتغيير الثوري، وذلك من بعد أن أنهكها الترويض الشهواني. لا بد لنا من وعي إنساني حر مرهف، وإرادة فولاذية صلبة، وأخلاقية مسلكية راقية، وإيمان زمني يقهر المستحيلات، حتى نستطيع أن نقاوم قوى تدمير الطبيعة وتشويه الإيروس الإنساني الخلاق، ونقهر الأنظومة التقنية البيروقراطية الليبرالية المتوحشة: "ليست العفوية ثوريةً بحد ذاتها. فالمذهبة العقائدية الحادة التي يخضع لها الناس اليوم يجب أن نكافحها بالتربية المقاومة والتنظيم المقاوم الشديدي الحدة. لن تكون ثورة من دون تحرر فردي، ولكن ما من تحرر فردي من دون تحرر جماعي" (ماركوز، "نحو التحرر").

اقرأ المزيد

وعليه، لن تتغير حياتنا إلا بثورة تدمر البنى العتيقة تدميراً يفضي غلى موت محتم يعقبه انبعاث ظافر. ليس لدينا اليوم صورة واضحة عن حقائق الانبعاث المنشود هذا، إذ إن النظرية النقدية الاجتماعية عاجزة عن رسم ملامح الواقع الإنساني المقبل. ومع ذلك، ينبغي لهذه النظرية أن تتحول إلى أتوبيا خلاقة تبتكر لنا الآن أنماطاً جديدة من الحياة، ونوعيةً راقيةً في اختبار السعادة. معنى ذلك كله أن الاحتجاج الثوري الدائم ينبغي أن يقهر قوى الإنتاجية التقنية الآلية، ويستبدل بها حاجات إنسانية مستلة من اختبارات أشكال الحياة الجديدة. قبل أن نغير البنى الأساسية الثقافية والاجتماعية والسياسية، علينا أن نغير قواعد اللعبة ونعالج انحرافات الأداء الإداري المسلكي العام.

لا ينجز الثورة أناس ضعفاء، خاضعون، مبرمجون، عتيقو الذهنية، تتملكهم تصورات المجتمع الطبقي الشاذة، فتعين لهم مجال تعابيرهم، وحقل مطالبهم، وميدان حاجاتهم، وحدود تطلعاتهم. لا تنجح الثورات إلا بفضل الإنسان الجديد الجريء الذي يقتحم الآفاق التغييرية، هادماً أشكال الاستعباد في العمل المنتج، وأصناف التبعية في الأخلاقيات الموروثة القاهرة الظالمة، وضروب التصرف البورجوازي المخادع المرائي. أما الغاية الأخيرة، فتقضي بأن ينعم الإنسان "باختبار الفرح على غير ذنب، وارتشاف الحياة على غير نكران، والتنعم بانتصار التضامن على الأنانيات"، ذلك بأن الانعتاق من سطوة الليبراليا المتوحشة يتطلب إعلاء قيمة الحياة وتعزيزها بحد ذاتها، أي بمعزل عن أي اعتبار منفعي آخر.

تكامل الأبعاد الكيانية في الإنسان

حين نبلغ المستوى الثوري التجديدي الخلاق هذا، نستطيع حينئذٍ أن نحقق فينا صورة الإنسان الشامل الذي أومأ إليه الفيلسوف الألماني الثائر فويرباخ (1804-1872). من سمات هذا الإنسان أنه يراعي جميع أبعاد وجوده، ويعزز فيه كل رغبات الاكتمال الإنساني، لذلك ينبغي استثمار طاقات الإروس الشغفية الليبيدوية الناشبة في أعمق أعماقه، من أجل ابتكار علم جديد وتقنية جديدة وتعزيز شكل آخر من الإنتاج الجمالي الشغفي يتيح لنا أن نؤالف بين التقنية والفن، بين العمل واللعب، بين الالتزام والعشق. من جراء الانسجام الكياني الجديد هذا، يغترف الإنسان من ينبوع وجدانه الإيروسي الشغوف الطاقات الخلاقة التي تؤهله لابتكار واقع إنساني جديد يمنع الاستغلال، ويحرر مبدأ اللذة الشرعية، ويعززه حتى يصبح مقياس التمييز العاقل بين الجمال والقبح، والسكينة والصخب، والرقة والقسوة، والذكاء والحمق، والفرح الحق والمتعة المنحرفة. بفضل حكمة التمييز هذه، نستطيع أن ندرك جسامة الخلط المميت بين الحرية الواعية المسؤولة والعبودية الخانقة الظلماء.

خلاصة القول إن العقلانية التكنولوجية الحديثة تقهر قطاعات الوجود التاريخي، فتفرض على الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد المنطق الأيديولوجي القائل بتعزيز الإنتاجية المادية المحض. من جراء ذلك، ينكفئ الإنسان إلى حصن ذاته، منعزلاً عن حركة الاحتجاج التغييري، مكتفياً بأشكال متقلصة من الحياة تقمع فيه طاقات الانتفاض والإصلاح، وتجعله يبتهج بالقسط الضئيل من ملذات الوجود الحر الأصيل. لا غرابة، من ثم، أن يرتد ماركوز نفسه، في آخر حياته، إلى الجماليات يعاين فيها، وقد اعتصرته تشاؤمية فكرية منهكة، شكلاً من أشكال الحرية الذاتية ينعم بها الإنسان المنكفئ الذي يناهض بها حتمية خضوع الإنسان المعاصر للأنظومة القاهرة.

المزيد من ثقافة