في ديوانه الشعري الثالث عشر الذي يضم مجموعتين هما "يوشك أن يحدث" و"مرآة النائم"، الصادرعن دار مسيكلياني (تونس)، يتدرج الشاعر السعودي أحمد الملا (1961) في مراتب الخطاب الشعري الهادي والشفيف، والشبيه بالمباشر، من دون أن يكونه، عبر أسلوب قصيدة النثر الذي عرف به منذ التسعينيات من القرن الماضي إلى يومنا هذا.
ولكن، قبل الانصراف إلى قراءة قصائد المجموعة ذات الصفحات المئتين والسبع عشرة (217)، لمح إلى مسلك غالب لدى شعراء قصيدة النثر، أياً كانوا عرباً أو غربيين، عنيت به هاجس الهوية الفردية والفنية والروحية، باعتبارها مادة للكتابة الشعرية ذات صدقية، ولا سيما بعد أفول الأيديولوجيات، وتراجع المذاهب الأدبية من خلفية الشعر الكبرى.
ففي قصيدته الأولى، من المجموعة، يروي الشاعر أحمد الملا، وفي عملية استبطان ذكية، كيف يضبط مشاعره، وكيف يستثمر صراخه وصمته في تكوين ذاته الخلقي، هذا التكوين الذي يتيح له تحمل ثقل الأيام المطرد. يقول، "خبأت صرختي لمزيد من الندم/ لم أفلتها سهواً/ خبأتها لشدة/ وخبأتها لما هو أقسى من الأمس...". وفي القصيدة الثانية، على التوالي، بعنوان "لم يحدث من قبل" يحلو للشاعر الملا أن يستخدم لعبة النفي، أو استراتيجيته المتواترة – والتي تعادل في دلالاتها المواربة الإيجاب، من أجل أن يثبت حدوث الأسى والألم والسقوط في الفراغ، "هذا كله/ لم يحدث من قبل/ لم نقع في الأسى بعد/ سقطت الأيام أمامنا/ مبعثرةً في الدرج.../ يد مبتورة/ وريح تتهيأ/ نحو الفراغ".
لازمة النفي
ومصداقاً لهذا الاستنتاج، فإن ندرة تواتر لازمة النفي ("هذا كله لم يحدث") في ختام القصيدة، في مقابل غلبة الجمل المثبتة، سرعان ما تكشف للقارئ عن المقلب الآخر، بل الدلالة المواربة التي قصد إليها الشاعر، والتي مفادها أن هذا كله حدث من قبل، ووقعنا في الأسى، وسقطت الأيام... وهذا من دون أن يتكبد الشاعر عناء ابتكار صور شعرية ذات محمولات شعورية دالة على الحالة. وفي هذا إيثار لبعض التراكيب (الأساليب الخبرية) على البلاغة، بما يذكر بمقولة فيكتور هوغو "حرباً على البلاغة، وسلاماً على التراكيب"، مستلة من بيت شعري في قصيدة كان قد نظمها عام 1856، دفاعاً عن الثورة الفرنسية والشعرية على حد سواء.
وفي القصيدة التالية بعنوان "أبحث عنه" يعاود الشاعر الضرب على وتر التلقين وتكوين ذاتيته الشعرية على السبل المفارقة للبلاغة والنظم التقليديين، عنيت به إعداده حساسية هي خليط بين الرومانسية الملتبسة أو المزاجية، وبين طرافة الوجود وخفته وعبثه أحياناً. وإذا الشعر لديه أقرب ما يكون إلى محاكاة الكائن العائش وسط العالم، والصائر ذاتاً شعرية، وتدوين بنيان كيانه وعالمه، من نواقصه، وزوائده، ومن لحظات حياته المخصوصة، باعتبارها موضوعاً أثيراً للشعر، ومادة لصوغ أسطورتها، تالياً. يقول، "يداي تعلمتا في الظلام/ ونبشتا الضوء لمحراث يتنبأ/ حتى أبصرت بإصبع واحدة.../ لفيت بغيتي/ يوم نسيت ما أبحث عنه/ ذاك الذي ضيعته من يدي/ متعمداً".
ومن القبيل نفسه، حساسية متنامية لدى الشاعر، مفارقة للمألوف، حيال الخطأ وتراكماته، التي تتحول إلى هاجس مقيم يستدعي التعبير عنه، "هناك خطأ ما/ يجعلك تصحو فزعاً/ ومتأخراً/ تحاول اللحاق قبل أن تتراكم أخطاء أخرى/ وتعجز عن القيام من النوم".
حال الذات
وبناءً عليه، يمكن القول إن ثمة غنائية شفيفة، وغير صارخة في شعر الملا، وهي تترجم عن شعرية مستفادة من عرض حال الذات، في قيد تكونها وتوضعاتها، وانكساراتها، وجموحها، وقبولها أو رفضها وجهات نظر غير مألوفة. ولا يزال الشاعر يمضي في ذلك العرض، وفي سيرورة التقصي والتوليد والسرد والتعليق، إلى أن يستخلص رأياً فريداً، وموقفاً شعرياً منسجماً مع ذاته العارفة والحساسة. يقول، "يدخر الشاعر في الحصالة آخر اليوم/ خطأً صغيراً/ خطأ لست قادراً على تصويبه/ خطأ غامض خطأ حاد/ يتخفى بين الشقوق".
وإذ يتنبه الشاعر إلى خطورة ما يدخره، والى إمكان تفلت الأخطاء من تلك الحصالة، وابتلائه بها، يقرر أن يكسرها، فيقول، "فلأكسر الحصالة على ركبتي/ خاطفاً ما تطاير/ بيد راعشة/ وأمضي/ في خفة المفلسين".
وذلك هو دأبه في قصيدة "وارينا السر"، إذ يشخص الأخير، ويجعله كائناً قيد التفلت من أسر صاحبه، ومتحركاً في الزمان والمكان، ما يستدعي من الذات - الشعرية طبعاً - أن تتساءل عن إمكان انقلابه (السر) عليها، وعن لزوم مواراته بتسميته... "ربما يشهر ما يشتهي (السر)/ أو ينقلب على قفاه/ ويمشي عارياً/ لكننا/ خفنا/ ودفناه/ وارينا سر بنيه/ حين سميناه" .
وفي قصيدة أخرى بعنوان "أقطف الخوف"، مؤلفة من ثلاثيات أي من وحدات مكونة كل منها من أسطر شعرية ثلاثة يفصل بينها فراغ مطبعي، وفيها يعالج الشاعر، وفي التفاتة ذكية منه، مسألة امتلاء الكلمات بدلالة كاملة، أو فراغها منها، ومن أجل ذلك يتخيل الشاعر إمكان أن يستخدم الكلمات حيناً للحرث، وحيناً آخر للسكن، أو لملء وعاء بما يفيد، غير أن تخيله المخالف للمنطق يفضي به إلى اليقين، بأن الكلمات إنما هي أوعية فارغة يملؤها المرء بما تفيض به نفسه ومداركه ومشاعره. ولعل مسعى الشاعر الملا إلى تمني فراغ الكلمات من المشاعر والمعاني، مخالف بعض الشيء لمنحى الشعر الرومنطيقي والأيديولوجي والعبثي الداعي إلى إيلاء الكلمات دلالات جاهزة، ومحمولات نهائية، ناطقة بما يرون. "ليتها فارغة/ لأحرث أرضها/ وأقيم أشجاري/ ليت أنها فارغة/ الكلمات".
أزمة وجودية
ومن ثم يعود الشاعر أحمد الملا إلى أسلوب البوح المباشر الذي كان تجنبه إلى حينه، في قصيدة "أدفع حياتي نحو الماء"، للتعبير عن أزمته الوجودية، وعجزه عن التصعيد بحياته إلى أعلى مما يحياه، في الواقع، إلى المثال المتواري طي الشعر... "أنهكتني حياتي حين كتبتها/ ظلت ترتمي أمامي/ جانحةً على شاطئ ضحل/ لم تسعفني حيلة/ تعيدها إلى حيث تغوص الحيتان/ يوجعني مرآها تتمرغ/ وتنفخ في الوحل".
ولئن كان محالاً تكوين صورة شاملة عن مضامين عمل شعري كامل بهذا الاتساع (61 قصيدة، وانقسام المجموعة شعرية قسمين: "يوشك أن يحدث"، و"مرآة النائم")، فإنني آثرت قراءة البعض عسى يكون تمثيلا تقريبيا لآليات الكتابة الشعرية لدى الشاعر أحمد الملا، ومدخلاً إلى تذوق شعره، ليس إلا.
إذاً، يواصل الشاعر، في ما بقي من القصائد - وهي الأكثر والأغلب – استخدام مداوراته الأسلوبية واستراتيجياته، من مثل تفخيمه الكنايات وتوسيعها، في قصيدتي "أرداني" و"بنات أفكاري"، ولجوئه إلى التأمل الهادي في مصاعب الوجود ("حين السهم" و"مطمئناً إلى حتفي"، وغيرهما)، وفي العمر والسنوات ("دربت جسدي)، وفي حمل الرسالة أو عدمه ("ديجانو")، وفي لزوم التمييز بين الواقع والمرتجى ("روايتي")، وفي وجود الله المكين في حياته، على الرغم من الفراغ ("صورة عمياء") إلى جانب تمثلاته ومثالاته التي وإن يقر بعجزه عن بلوغها، فهي ترسم خطاً تصاعدياً لذاك الغد الذي ينهد إليه، ويكون هو الشعر. ثم ألا ينطبق هذا الوصف على تعريف الشعر، بحسب رينيه شار، في "أن الشعر هو حياة الإنسان المستقبلية وقد أعيد الاعتبار له"؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبموجز العبارة، يمكن القول إن لغة أحمد الملا الشعرية هي لغة شفيفة، ذات إحالات شخصية، ورموز مكثفة ومنتقاة بعناية، وشغف بالمشهدية التصويرية، وهي عماد آخر للكتابة الشعرية، إلى جانب التراكيب اللغوية الذكية، يرفدها جميعاً البث الوجداني الطفيف، ولكن المتتابع، ومن دون إغراق أو إطناب، إلى جانب سردية تتيح للذات أن توسع عالمها، وتلقي بظلالها وشجاها على الأمكنة وصور الأحبة الذين غادروا، وعلى الحكايات المنتهية بقسوة... "يرفع الكمنجة، يغمض عينيه، فيسمع صفيرها من شقوق الجدران قطارات تتلوى في غرفته مثل موسيقى مذعورة تنبأت بقدوم كارثة".
للشاعر والفنان السعودي أحمد الملا العديد من المجموعات الشعرية، هي: "ظل ينقصف"، و"خفيف ومائل كنسيان"، و"سهم يهمس باسمي"، و"تمارين الوحش"، و"كتبتنا البنات"، و"علامة فارقة"، و"الهواء طويل وقصيرة هي الأرض"، و"ما أجمل أخطائي"، و"حفرة على مقاسي"، و"حسن السبع"، و"إياك أن يموت قبلك"، و"فهرس الخراب".