لم تحمل جولة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان على بيروت ودمشق جديداً يُضاف إلى سلسلة المواقف الإيرانية المعروفة من أوضاع "شقيقيها" ما يجعل من الزيارتين، وقبلهما مشاركة عبد اللهيان نهاية أغسطس (آب) الماضي في مؤتمر بغداد الإقليمي، ومسارعته إلى لقاء رئيس النظام السوري بشار الأسد في اليوم التالي، مجرد إطلالة دبلوماسية للقيادة الجديدة في طهران الموصوفة بالمتشددة، بعد رحيل حكومة حسن روحاني ووزير خارجيتها الدائم الابتسام جواد ظريف.
بدا عبد اللهيان، على العكس من ظريف، دائم التجهم. انتماؤه إلى مجموعة سياسيّي الحرس الثوري ربما يفرض شكل الإطلالة، لكن أسباباً "قوقازية" أخرى قد تكون وراءها. في بيروت، قدّم عروضه لدعم "البلد الشقيق" بما يفوق سعة مخيلة اللبنانيين. قال إن إيران مستعدة لبناء محطتين للكهرباء وإعادة إعمار مرفأ العاصمة وتزويدها بشبكة مترو. ومن منبر وزارة الخارجية، كرر ما فعله في بغداد مؤبناً قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وأضاف إليهما عماد مغنية، ثم رسم ما يشبه خريطة طريق للسلطة في لبنان "الشريك" في محور الممانعة، برضاه أو رغماً عنه.
حمل عبد اللهيان تجهمه إلى دمشق، فسبقه إليها الطيران الإسرائيلي، الذي أوقع قتلى وجرحى في قاعدة "تيفور" قيل إن بينهم إيرانيون. هنا أيضاً تكررت خطابات الشراكة والحرب على الإرهاب، لكن الفعل الإسرائيلي وتوقيته لم يكونا صدفة. فقبل أيام، أعلنت تل أبيب مواصلة حربها بين الحربين مع إيران على مستويات عدة، وليس على الإيرانيين أن ينتظروها على ضفاف بحر قزوين.
لم تعُد إسرائيل عدواً على جبهة المشرق العربي فقط. وبحسب الزعم الإيراني، حلّت على حدود إيران الشمالية في أذربيجان. هناك تخوض القيادة الإيرانية أحدث معاركها ضد الصهيونية التي يأويها نظام إلهام علييف، فترسل قواتها لإجراء مناورات ضخمة، تواجهها باكو بمناورات مماثلة تشارك فيها تركيا وباكستان، لتجد إيران "الشيعية" نفسها في صدام مع دولة "شيعية" متحالفة مع دولتين "سنّيتين" ولا حليف لها سوى أرمينيا "المسيحية"!
لا يكفي هذا الوصف العابر لكشف العمق الحقيقي لأزمة القوقاز المستجدة، فإيران صاحبة الأيديولوجيا الدينية المتزمتة، تتحوّل إلى دولة براغماتية جداً عندما يتعلق الأمر بمصالحها. وفي العلاقة مع أذربيجان، تهتم طهران بمنع نمو الشعور القومي الأذري بما يؤثر في أكثر من 30 في المئة من سكانها الأذريين، وتسعى إلى الحفاظ على مصالحها النفطية والغازية في بحر قزوين وعلى طرق إمدادها نحو أرمينيا وتركيا.
بقيت إيران على الحياد في نزاع ناغورنو قره باغ الذي انتهى إلى انتصار أذربيجان وإلى تعزيز مواقع تركيا والهيمنة الروسية في المنطقة بأسرها، واستفاقت أخيراً على وجود إسرائيلي في أراضي جارتها، لتبدأ تصعيداً لا يمكن تفسيره بالدفاع عن مصالح واقعية فقط بل وتعزيزاً لسلطة إيرانية جديدة قوامها الحرس الثوري ونهجه التوسعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لجأت طهران إلى موسكو لتشكو لها سلوك باكو. الإعلام الروسي قال ذلك صراحة. لكن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أبلغ عبد اللهيان بأن بلاده ليست مع التصعيد العسكري، وطرح صيغة حوار تجمع دول المنطقة القوقازية إلى جانب روسيا وتركيا وإيران.
وفي تصريحات الوزيرين بدا التمايز واضحاً. ركز لافروف على ضرورة استئناف المفاوضات النووية، فيما أولوية عبد اللهيان كانت أذربيجان، فطهران "لن تتسامح مع تغيير خريطة القوقاز".
في بيروت ودمشق، ظهر وكأن كلمة السر هي التأكيد على استئناف الحوار النووي الإيراني - الدولي. كانت تلك رسالة وزير الخارجية اللبنانية عبدالله أبو حبيب الوحيدة إلى الوزير الإيراني وأضاف إليها رئيس الجمهورية ميشال عون ضرورة إنجاح الحوار السعودي - الإيراني، وأدلى وزير الخارجية السوري فيصل المقداد بكلام مشابه. هنا التقت بيروت ودمشق مع موسكو على موقف واحد.
يمكن إعادة التجهم الإيراني إلى فشل مسعى عبد اللهيان في موسكو التي تدير لعبة أوزان حساسة من القوقاز إلى سوريا مع شريكين لدودين، أنقرة وطهران، أما التصريحات الإيرانية الانتصارية في بيروت ثم في دمشق، فالأرجح أنها تعويض تأتي قيمته من تبعية النظام في سوريا وانفراط السلطة الدستورية وضعفها أمام الميليشيا في لبنان. لكنه تعويض لا يمر على متابع دقيق ولا على الشعب الإيراني نفسه. فالمغردون الإيرانيون لم يسكتوا على سخاء عبد اللهيان في بيروت. أحدهم اختصر الموقف، قائلاً: "يجب أن يسأل المسؤولون اللبنانيون عبد اللهيان: لو كنتم حقاً قادرين على فعل ذلك، فلماذا لم تفعلوه لشعبكم المسكين؟". وعلّق آخر: "خوزستان... وشرق إيران وغربها بحاجة إلى إعادة إعمار. الناس ترزح تحت وطأة التضخم والفقر. ألا ترون ذلك؟ ألستم إيرانيين؟".
جولة عبد اللهيان كانت بهذا المعنى متعبة في محطتها الروسية، فقصد بيروت طلباً لراحة في الكلام لا يجدها في مكان آخر.