Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكاتب النمساويّ بيتر هاندكه يكتب رواية بلا أحداث    

"لصة الفاكهة" البطلة التي تجهل نفسها تغري الراوي والقارئ

الروائي النمساوي بيتر هاندكه حائز نوبل الأدب (أ. ف. ب)

"لصة الفاكهة" رواية الكاتب النمساويّ الحائز جائزة نوبل للآداب عام 2019 بيتر هاندكه صدرت ترجمتها العربية في مشروع "كلمة" للترجمة - مركز أبو ظبي للغة العربيّة. وأنجز الترجمة عن الألمانية الكاتب السوريّ إلياس حاجوج.

ومن الجدير ذكره أنّ بيتر هاندكه المولود عام 1942، أثار نقاشاً هائلاً وجدلاً واسعاً بين المثقّفين لدى نيله جائزة نوبل للآداب، فعلى الرغم من الإجماع العامّ على كون هاندكه من أبرز الكتّاب المعاصرين الذين يكتبون باللغة الألمانيّة، وعلى الرغم من اعتبار عدد من النقّاد أنّ نصوصه تجعله واحداً من الكتاب الأهمّ في الأدب العالميّ المعاصر، حوّلت المواقف السياسيّة والعقائديّة لهاندكه حصوله على الجائزة إلى قضيّة إنسانيّة واجتماعيّة. ويُلام هاندكه في أوساط الكتّاب والمتخصّصين في الأدب على مواقفه من الإبادة الجماعيّة التي حصلت في البوسنة والهرسك بين العامين 1992 و1995 والتي يعتبرها عدد من المؤرّخين أسوأ جريمة حرب نُفِّذت منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية. ويُعتبر إنكار هاندكه للإبادة الجماعيّة في البوسنة والهرسك بأنّه فعل لا إنسانيّ لا يمكن لصاحبه أن ينال جائزة بحجم نوبل. ورأى منتقدو هاندكه أنّ هذا الأخير خفّف من وطأة جرائم الحرب التي ارتكبها الصرب بحقّ سكّان البوسنة وذلك في أدبه والمقابلات المجراة معه وفي تقرّبه من الرئيس الصربيّ السابق سلوبودان ميلوشيفيتش، وأعلن سفراء ألبانيا والبوسنة وكرواتيا وكوسوفو وتركيا مقاطعتهم حفلة تسليم جائزة نوبل.

ولكن بعيداً من مواقفه السياسيّة المستفزّة لكتّاب ومثقّفين وصحافيّين كثر، اعتبرت لجنة تحكيم جائزة نوبل أنّ تكريم هاندكه قائم على أعماله المؤثّرة التي تتميّز ببراعة لغويّة ومهارة أسهمت في سبر أغوار التجربة الإنسانيّة وفضاءاتها. وعلّق بيتر هاندكه عقب فوزه بنوبل قائلاً: "لم أتوقّع يوماً أن يتمّ اختياري لنيل جائزة نوبل بسبب مواقفي التي أثارت اللغط الكبير في الأوساط الأدبيّة منذ عشرين عاماً".

الإغراق في السرد

ترسّخ رواية "لصّة الفاكهة" التي صدرت بالألمانيّة عام 2017 مكانة بيتر هاندكه بوصفه كاتباً قادراً على سبر غور النفس البشريّة، فيشعر القارئ أنّ الكاتب وضع نصّه بتأنٍّ واستمتاع نتيجة الوصف البطيء واللذيذ وسير الأحداث في خطّ هادئ متروٍّ طيلة السرد. فعلى مدار حوالى ثلاثمئة وثمانين صفحة يرافق القارئ الراوي الذي يلحق هو نفسه بلصّة الفاكهة وتنقّلاتها وسفرها لمدّة ثلاثة أيّام من شهر أغسطس (آب) من العقد الثاني من الألفيّة الثالثة. ثلاثة أيّام تلتقي خلالها اللصة بنماذج بشريّة ووجوه وأناس، من معلّمة إلى خبّاز فصاحب مطعم فصاحب فندق مروراً بلاجئين ومسافرين وشاب يوصل البيتزا وغيرهم. وجوه وأناس، بالإضافة إلى وصف عميق ودقيق للطبيعة والمشاهد الطبيعيّة التي تمرّ بها اللصّة في فرنسا في مروج نهر فيوزني شمال شار عند الحدود بين إيل دو فرانس والبيكاردي.

ويصيب الراوي عندما يقول في نصّه إنّه "في قصّة لصّة الفاكهة لم يكن يحدث شيء". (ص 330). صحيح أن لا شيء يحدث إنّما يحدث كلّ شيء، فالوصف الكثير يُشعر القارئ أنّ حواسه كلّها مستثمرة في لحظة القراءة، حتّى حاسّة السمع نفسها. ففي بداية النصّ يقول الراوي: "هذه المرّة الوحيدة في القصّة التي خاطبتني فيها لصّة الفاكهة شخصيّاً" (ص 12)، ثمّ يمضي في وصف صوت لصّة الفاكهة وذلك في عشرين سطراً، وصفاً دقيقاً زاخراً بالتشابيه والمشاهد المتخيّلة لنقل هذا الصوت إلى القارئ الذي يشعر في ختام النصّ أنّه يعرف لصّة الفاكهة على الرغم من أنّه لا يعرف عنها شيئاً فعلاً.

وبينما قد يجد البعض في الوصف إطالة وصمتاً وهدراً للسرد، إلاّ أنّ القارئ يلاحظ أنّ لا صمت في النص، حتّى عندما لا توجد حركة هناك شيء يتحرّك في نفس القارئ ونفس الشخصيّات. وتتجسّد قدرة الكاتب السرديّة والوصفيّة عندما يستحضر ويستذكر وينهل من معرفته الشخصيّة قصصاً من العهد القديم أو التوراة أو الأفلام أو روايات أخرى، يتجسّد تمكّن الكاتب من نصّه في الإحالات الكثيرة والمقولات والأمثلة والمعرفة بالفنّ والسينما واللغات والموسيقى، حتّى أنّ القارئ يقع على تعدادٍ لكتّاب ومؤلّفين في الرواية بشكل مبرّر وجميل في آن واحد (ص 283).

الراوي الذي يتبع القصّة بدل أن يكتبها

يتميّز راوي "لصّة الفاكهة" بأنّه يعرف أنّه راوٍ وأنّه لا يتحكّم بالأحداث إنّما يسردها فقط، فيقول: "هل حدثت الأمور كما ينبغي أن تحدث ربّما؟ كلاّ، قلّما حدثت الأمور في قصّة "لصّة الفاكهة" كما ينبغي أن تحدث. ربّما حدثت بين الآونة والأخرى كما يفترض أن تحدث. كانت القاعدة بالطبع أنّ الأمور حدثت كما حدثت". (ص 262).

"يغسل الراوي يديه" من القصّة، فلا يمنح إجابات وأحداثاً وتحديدات بل يترك للقارئ حرّيّة ملء الفراغات بما يناسبه لدرجة أنّه يفاجئ القارئ في مواضع من السرد بجمل ساخرة غريبة كمثل: "أمّا الأسباب القريبة والبعيدة لانعدام ريعيّة الفندق فيمكنك عزيزي القارئ أن تطّلع عليها في الإنترنت". (ص 279). أو مثلاً قوله: "علا صوت الموسيقى... لم يكن مهمّاً أيّ موسيقى تُسمع. كلّ من قرأ هذا عليه أن يتخيّل الموسيقى التي يحبّها". (ص 377). فكأنّما الكاتب يعوّض عن إغراقه نصّه بالوصف في مواضع كثيرة بمفاجأة القارئ بحرّيّة سرديّة جزلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويكتشف القارئ أنّ البطل في قصّة "لصّة الفاكهة" ليس الراوي ولا اللصّة بل القصّة نفسها. القصّة هي التي تقرّر وهي التي تسير بالشخصيّات والكاتب والراوي، لقد وقعت القصّة كما وقعت ولن يجرؤ أحد على تغييرها، فيقول الراوي عن "لصّة الفاكهة" في أحد المواضع: "حان الوقت لتتّخذ طريقها من جديد. من قال هذا؟ قصّتها". (ص 205).

و"لصّة الفاكهة" التي تحمل العنوان على كاهلها والتي يمنحها الراوي اسماً بعد صفحات كثيرة من السرد، كانت فتاة مميّزة متوهّجة، إنّما على الرغم من ذلك يتركها الراوي بعيدة، فلا يعرف القارئ الكثير عنها: لا معلومات عن ماضيها ولا عن مشاعرها ولا حتّى عن أفكارها ومخطّطاتها، فكأن القصّة تسير بالجميع من دون بوصلة أو معلومات. اللصة نفسها تقول عن نفسها بكلماتها الخاصّة إنّ أحداً لا يعرفها: "ما من أحد يريد أن يعرف عنّي شيئاً، ما من أحد يسألني شيئاً،... من أين أنا، ولأيّ غرض أتسكّع عبر هذه المنطقة مع هذه الأمتعة الثقيلة على ظهري؛ لا يبدو أنّ هذا يشغل بال أحد". (ص 335).

"لصّة الفاكهة" رواية السرد الذي لا يسرد، رواية النفس البشريّة التي يحتكر فيها الوصف المكان بينما يسير القارئ مع الشخصيّة التي تدرك أنّها شخصيّة وأنّه ممنوع عليها أن تخرج على النصّ وعلى القصّة. هكذا يترجم الكاتب النمساويّ بيتر هاندكه مرّة أخرى قدرته على التعمّق في الروح البشريّة عبر أدبه هو الذي يقول عن الأدب في أحد نصوصه: "الأدب أعمق ما يمكن أن نعيشه، هو لا يغيّر الحياة، بل يوقظها".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة