أصدرت محكمة جاكرتا المركزية في إندونيسيا حكماً ضد الحكومة الحالية ممثلة برئيس البلاد ووزير البيئة ووزير الصحة ووزير الشؤون الداخلية ومحافظ جاكرتا بعد ماراثون من المرافعات في قاعات المحاكم لمدة تزيد على عامين، فيما ألزم الحكم حكومة جوكو ويدودو تشديد اللوائح وفرض مزيد من الإشراف والتنفيذ في ما يتعلق بتردّي جودة الهواء في العاصمة.
وتُعدّ العاصمة الإندونيسية من أسوأ المدن في جودة الهواء وأكثرها تلوثاً. ووفقاً لمؤشر جودة الهواء "أي كيو إير"، سجلت بيانات جودة الهواء في جاكرتا تركيزات عالية من الجسيمات المجهرية الضارة المعروفة باسم PM2.5.
فيما صُنفت العاصمة على أنها المدينة الأكثر تلوثاً في العالم، وفقاً لـ "أي كيو إير"، بحيث احتلت الصدارة بين المدن الأكثر تلوثاً كنيودلهي وبكين. وتُعدّ بنغلاديش الدولة الأكثر تلوثاً عالمياً وفق إحصاءات مؤشرات جودة الهواء.
وربط العلماء تلوث الهواء بتسريع وتيرة الاحتباس الحراري والتغيّر المناخي عالمياً، فيما يلفت تقرير بيئي صدر أخيراً إلى أن متوسط عمر المواطنين الإندونيسيين سيتراجع لما يصل إلى عام ونصف بسبب تلوث الهواء في البلاد.
هواء ملوث
يشير مصطلح تلوث الهواء إلى انبعاث الملوثات في الهواء، والملوثات هي التي تضر بصحة الإنسان والكوكب على حد سواء. وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن تسعة أعشار سكان المدن يتنفسون هواءً ملوثاً ليتخطى بذلك الحد الأعلى الاسترشادي الذي وضعته المنظمة، بخاصة في الدول ذات الدخل المنخفض أو المتوسط.
ومن أهم العوامل التي تصدر الهواء الملوث، إنتاج واستخدام الطاقة من خلال حرق الوقود الأحفوري الذي يخرج انبعاثات الغازات والمواد الكيماوية في الهواء. كما تختلف تأثيرات تلوث الهواء في جسم الإنسان، اعتماداً على نوع الملوثات وطول مستوى التعرض لها، مما يترك البشر في خطر الإصابة بعدد من الأمراض والآثار الصحية.
وتُعدّ القارة الآسيوية الأعلى في معدلات تلوث الهواء، فالدول العشر الأولى الأكثر تلوثاً للهواء جميعها من قارة آسيا. ووفقاً لمؤشر جودة الهواء العالمي لعام 2020، تتصدر بنغلاديش المركز الأول باعتبارها أكثر البلدان تلوثاً للهواء، تليها باكستان ثم الهند ومنغوليا وأفغانستان.
ويؤكد علماء البيئة أن تلوث الهواء يسرّع من وتيرة الاحتباس الحراري وتغيّر المناخ حول العالم، إذ تتسبب انبعاثات الميثان وثاني أكسيد الكربون في ارتفاع درجات الحرارة.
تحوّل جذري
شهدت إندونيسيا في العقدين الماضيين، تحديداً بين عامي 1998 و2016، تغيّراً جذرياً في جودة الهواء، بحيث تحوّلت البلاد من كونها تحضن الهواء النقي إلى التمركز في قائمة أكثر دول العالم تلوثاً للهواء، مع تزايد معدل تلوثه لما يصل إلى 171 في المئة خلال تلك الفترة.
وأسهمت عوامل التحوّل الصناعي والاقتصادي التي حدثت بإندونيسيا في هذا التغيير. كما أن عامل الاكتظاظ السكاني وتزايد السيارات في جاكرتا مسؤولان عما نسبته 31.5 في المئة من الهواء الملوث في العاصمة، وكذلك تزايد توليد الطاقة باستخدام الفحم والبنزين والديزل منذ عام 2010.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإلى جانب العوامل السابقة، تلقي أزمة حرائق الغابات والتصحر غير القانوني بظلالها على زيادة معدل تلوث الهواء، إذ تُسبب الضباب الدخاني الذي يلوث الهواء، وينتج منه عدد من المخاطر الصحية والبيئية.
ووفقاً لتقرير صادر عام 2020 عن منظمة السلام الأخضر، فإن سبعة من الدول العشر الأعضاء لرابطة آسيان يتأثرون بالضباب الدخاني الناتج من حرائق الغابات والأراضي في إندونيسيا، مما يسبب عدداً من الأمراض والمشكلات الصحية.
ويؤكد رئيس مؤشر جودة الهواء في جامعة شيكاغو أن السبب الأساسي لتلوث الهواء في إندونيسيا ليس ظروف الأرصاد الجوية، وأن احتراق الوقود الأحفوري هو المسبب، إذ هناك 10 محطات طاقة في محيط جاكرتا، التي تسمح بإصدار حوالى ثمانية أضعاف الملوثات والجسيمات أكثر من المحطات التي تعمل بالفحم.
المواطنون في خطر
وأشار تقرير بيئي حديث إلى أن متوسط عمر المواطنين الإندونيسيين في تراجع لما يصل إلى عام ونصف، بسبب تلوث الهواء، إذ تفشل جودة الهواء بالبلاد في الإيفاء بإرشادات منظمة الصحة العالمية.
كما يذكر التقرير أن سكان بعض المناطق معرضون دون غيرهم لأخطار الهواء الملوث، كالمقيمين في العاصمة، حيث ترتفع نسبة انخفاض معدل الأعمار الناتجة من سوء جودة الهواء إلى عامين ونصف بدلاً من عام ونصف في معظم أرجاء البلاد، بل وتصل في بعض المناطق إلى أربعة أعوام.
وتشير التقارير البيئية إلى أن نحو 80 في المئة من سكان إندونيسيا، البالغ عددهم 256 مليون نسمة، يعيشون في مناطق تزيد فيها نسبة تلوث الهواء على الحد الأقصى الاسترشادي الذي وضعته منظمة الصحة العالمية.
وتذكر منظمة "يونيسف" أن تلوث الهواء في إندونيسيا يعرّض قرابة عشرة ملايين طفل للخطر الصحي، بخاصة الأطفال الصغار الذين يتأثرون بسهولة بالهواء الملوث، كونهم يتنفسون بشكل أسرع وتتّسم مناعتهم الجسدية بأنها لم تتطور بشكل كافٍ بعد.
ومن بين المخاطر التي يتسبب فيها تلوث الهواء والأعراض المرضية، حكّة العين والأنف والحنجرة وألم الصدر والتهابات الجهاز التنفسي العلوي، فيما تشمل الآثار طويلة المدى سرطان الرئة وأمراض القلب والأوعية الدموية وأمراض الجهاز التنفسي المزمنة.
جودة الهواء أمام القضاء
تعود الدعوى القضائية إلى عام 2019 من قبل مجموعة من المنظمات المدنية، وكان من المفترض أن يصدر الحكم في مايو (أيار) الماضي، لكنه أُجّل لثماني مرات قبل النطق بالحكم النهائي أخيراً.
وفي العام الذي رُفعت فيه الدعوى، كانت إندونيسيا تُصنّف السادسة عالمياً بين أعلى البلاد تلوثاً للهواء. لكن في هذا العام، تمكّن الأرخبيل من خفض مستويات الهواء الملوث للتراجع إلى المرتبة العاشرة عالمياً.
فيما يعزو البعض التحسن في جودة الهواء العامين الماضيين في إندونيسيا إلى إجراءات الإغلاق التي تسببت فيها الجائحة، بخاصة عندما فرضت العاصمة جاكرتا عدداً من الإغلاقات لتقليل انتشار الفيروس.
وانتقدت المحامية في منظمة جاكرتا ريو إيزا تيارا، التأجيل القضائي، معتبرة أن القضاة ينظرون إلى الأمر باعتباره غير مهم، وليس حقاً ضرورياً للمواطنين.
ويلزم الحكم الأخير الرئيس وحكومته تقوية المعايير المختصة بجودة الهواء في البلاد حتى تصبح كافية لحماية صحة المواطنين، بمن فيهم الجماعات الحساسة صحياً، كما طلبت المحكمة من الوزراء الثلاثة صياغة خطة عمل لتحسين جودة الهواء في جاكرتا وفرض رقابة أكثر صرامة على حكامها وجهودهم للحدّ من التلوث.
وتعليقاً على الحكم، أوضح مسؤولون في الحكومة الإندونيسية أن الرئيس جوكو ويدودو ما زال ينتظر نتائج دراسة من قبل وزارة البيئة والغابات للرد على قرار قاضي محكمة جاكرتا.
فيما صرح محافظ جاكرتا أنيس باسويدان أنه يحترم الدعوى القضائية التي رفعها تحالف العاصمة بشأن تلوث الهواء، مشيراً إلى أن حكومة مقاطعة جاكرتا لن تستأنف الحكم، وهي على استعداد لتنفيذ قرار المحكمة لتحسين نوعية الهواء في العاصمة. ودعا باسويدان جميع أصحاب المصلحة ممن لديهم أفكار وابتكارات ومبادرات، إلى التعاون مع حكومة جاكرتا لتنفيذ قرار المحكمة على أفضل وجه.
جهود حكومية
وفقاً لتقارير المنظمات البيئية، لا تمتلك إندونيسيا سياسة تحدد معدلات تلوث الهواء تلتزم بها الأقاليم كافة، لكن تحاول جاكرتا التركيز بشكل أكبر على تقليل الملوثات المرتبطة بقطاع وسائل النقل. ففي عام 2017، على سبيل المثال، طالبت الحكومة كل السيارات التي تستخدم الغازولين التقيد بمعايير يورو-4 التي تقتضي استعمال وقود أنظف وعالي الجودة يحتوي على الكبريت بجزء ضئيل للغاية مقارنة بالوقود الذي كان معتمداً في إندونيسيا من قبل.
كما أصدر ويدودو قراراً بوقف تطوير أراضي الخث للحدّ من حرق الأراضي والغابات، ومنذ ذلك الحين شهدت إندونيسيا حرائق أقل، فيشير تقرير أممي إلى أن مساحة الأرض التي تعرضت للحرائق عام 2018 تبلغ 7 في المئة من الأراضي المحرقة عام 2015.
وفي أواخر مايو الماضي، أعلنت شركة الطاقة الإندونيسية أنها تخطط لوقف بطاريات الطاقة التي تستخدم الفحم والغاز عن العمل بحلول 2025، مع استبدال هذه المحطات بمحطات طاقة متجددة.
كما تعمل إندونيسيا على تنفيذ عدد من البرامج البيئية لتحقيق هدف الوصول إلى صفر انبعاثات للكربون بحلول 2060. وأعلن ويدودو في الشهر ذاته عن استعداد بلاده لإنشاء وتطوير أكبر منطقة صناعية خضراء في شمال كالمنتان.
وأقدمت مجموعة العشرين على اتخاذ بعض الخطوات للحدّ من تلوث الهواء في بلدان المنظمة العالمية، التي تضم إندونيسيا. ففي يوليو (تموز) الماضي، اعترف قادة الوزارات المالية لمجموعة العشرين بأن تسعير الكربون أداة محتملة لمعالجة تغيّر المناخ، وذلك للمرة الأولى مما يفتح الباب لاتخاذ خطوة مبدئية نحو الترويج للفكرة، وتنسيق سياسات الحد من الكربون في البلدان العشرين.
آسيان والهواء النقي
تعمل دول عدة في رابطة آسيان على مكافحة تلوث الهواء من خلال اتخاذ خطوات وإقرار سياسات تساعد في حماية البيئة وتحد من انبعاثات الغازات المضرة. على سبيل المثال، أنشأت ماليزيا وسنغافورة معايير ولوائح وطنية متعلقة بجودة الهواء تعمل على تحسينه في البلاد، فيما تمتلك الفيليبين مؤشراً مرتفعاً للأداء البيئي يضعها خلف سنغافورة واليابان في منطقة جنوب شرقي وشرق آسيا، إضافة إلى قانون الهواء النظيف الذي يضع معايير وحدّاً وطنياً معيناً للانبعاثات الناتجة من الصناعات في البلاد.
كما أقرّت كمبوديا في أوائل الألفية الثانية مرسوماً فرعياً للتحكم في تلوث الهواء، ويتضمن معايير لجودة الهواء وحدود الانبعاثات للمصادر الثابتة والمتحركة. وفي تايلاند، تشجع الحكومة والسياسات القائمة على الحد من استخدام السيارات التي تعمل بالوقود، بحيث تمنح بانكوك تخفيضاً يبلغ 10 في المئة على الضرائب المقررة على مكونات السيارات الكهربائية للتشجيع على استخدامها وتقليل انبعاثات الوقود للسيارات. وتعطي فيتنام إعفاءات ضريبية للحافلات التي تستخدم الطاقة النظيفة، للحث على استخدام السيارات والحافلات صديقة البيئة.
كما أقرت رابطة دول آسيان العشر اتفاق التعاون لمكافحة الضباب العابر للحدود منذ عدد من الأعوام، بعد الأضرار البيئية والصحية الجسيمة التي تسبب فيها الضباب الدخاني بعدد من البلدان في الرابطة. وينص الاتفاق على منع ومراقبة وتخفيف حرائق الغابات والأراضي، والتحكم في الضباب الدخاني العابر للحدود من خلال الجهود الوطنية والإقليمية والتعاون الدولي. وأقرت الدول الأعضاء بالتزاماتها الأولية بشأن الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة في إطار اتفاق باريس، ما يجعلها منفتحة على إحداث تغيير أكبر في مجال حماية البيئة والحصول على هواء نقي لشعبها ومواطنيها.