تنتمي عائشة بلحاج (مواليد 1980) إلى جيل أدبي أسهم في الخروج بالقصيدة الحديثة في المغرب من كلاسيكيتها، فمنذ الثمانينيات ظهرت أسماء فتحت الكتابة الشعرية في المغرب على آفاق جديدة، وأسهمت في مواكبة النص الأدبي المحلّي لراهن الشعر في مختلف بلدان العالم. وعلى مدار العقود الأربعة الأخيرة أبان شعراء وشاعرات الأجيال الجديدة على قدرتهم على التقاطع مع تجارب العالم الشعرية بفضل المرجعية القرائية التي تعتمد على تعدد لغات التلقي، وبفضل ما عرفه العصر من تطور هائل في وسائل التواصل.
"على مدى حياة طويلة/ سعيتُ لاستبدال الضوء بالعتمة/ ولم يتغير هذا العالم/ تغيرت النوافذ/ التي أرى منها العالم/ ونخرت هذه الروحُ جسدَها/ حتى تلاشى". هذا ما تقوله الشاعرة المغربية عائشة بلحاج في مجموعتها الشعرية الجديدة الصادرة حديثاً عن دار خطوط وظلال. وتبدو كما لو أنها امرأة أنهكتها "الحياة الطويلة" وتسرب اليأس إلى ذاتها بعد عمر يدنو من نهايته، فيما تبدو الشاعرة لمن يراها في الواقع شابة تضجّ بالحياة ومباهجها. دعتنا هذه المفارقة إلى محاورتها، كي ندخل أكثر في أراضيها الشعرية، ونصغي إلى صوت التمرد الذي يملأ مجموعتها الجديدة، هي التي تقول "ولدنا في أمكنة/ لا تحبّ النساء"، ونعرف بالتالي وضع المرأة الشاعرة في المغرب، ولنسألها في الآن ذاته عن السر في قلة الشاعرات في بلد يغص بالشعراء الذكور.
تحمل عائشة بلحاج دكتوراه في العلوم السياسية، وتشتغل في حقل الإعلام. أصدرت كتابها الشعري الأول "ريح تسرق ظلي" عام 2017، عن بيت الشعر في المغرب، وبعده "قبلة الماء" عام 2019 عن دار روافد المصرية، فضلاً عن مجموعتها الجديدة "لا أعرف هذه المرأة". وحصلت على منحة من وزارة الثقافة لكتابة رواية جديدة ستصدر قريباً تحت عنوان "بريد الحبّ".
في مجموعتها الشعرية الجديدة، تعتمد بلحاج لغة وسطى قريبة من القارئ، غير أنها في الآن ذاته لا تتخلى عن أدبيتها، كما تجعل من الصورة الشعرية وسيلة أساسية لنقل ما يعتمل في داخلها إلى متلقّ تراهن على أنه يواكب تحولات الكتابة الشعرية. النص الأدبي لدى بلحاج مبني وفق وعي كبير بجماليات الكتابة، والصورة الشعرية لديها مركبة منتزعة مما هو واقعي ورمزي وسريالي. لا تكتفي الشاعرة بتوصيف حالات شعورية معينة، بل تجنح في الكثير من النصوص إلى طرح أسئلة يبدو الجواب عنها غير ممكن إن لم يستند إلى فكر وفلسفة ووعي: "ما نفع الكلمات للطيور؟/ ما نفع سنوات/ أرضعتني فيها الحياةُ/ حليبَها المرّ/ كريحٍ تنقل أشلاء الشجر؟".
الهم الحقيقي للشاعر أن يجد كلمته
صدّرت عائشة بلحاج كتابها الشعري الجديد بجملتين لإميل سيوران وعبد اللطيف اللعبي تحيلان على الحصار والتشاؤم. فسألناها عن سرّ الدخول إلى أرض الشعر عبر هذه العتبات المظلمة. فكان جوابها تعبيراً عمّا تقتضيه الكتابة من انسجام بين مشاعر الكاتب ورؤيته لمسألة الكتابة. تقول في هذا الصدد: "نكتبُ عادة انطلاقاً ممّا نشعر به، وما يشغلنا، بغضّ النّظر عن تعريفه، ونوعه؛ أي أنّنا لا نفكر كيف ندخل إلى الشّعر، ولا نختار باباً له، نطرقه من دون غيره".
الأمر، بحسب عائشة، أعقد قليلاً من ذلك؛ هو "أشبه بالجلوس على الرّصيف في انتظار إشارة، وحين تأتي الإشارة، نركضُ إلى وجهتها من دون تفكير في اسمها، أو لونها، أو مقدار العتمة فيها. من جانب آخر، نحن نعيش أوقاتاً صعبة، نبذل فيها جهداً كبيراً لنتمسك بذرّة تفاؤل، حتّى لا تهزمنا العتمة. والشّعر تسجيلٌ لهذا الصّراع، ولخسائرنا على الطريق. وهو أيضاً لا يعترف بما نبذله من جهدٍ لنتفاءل، بل بما نمتلئ به من مشاعر، وما يفيض منها فينا".
من حين لآخر تطرح بلحاج في كتابها الجديد سؤالاً عن جدوى الكلمات والكتابة. لذلك سألناها عن جدوى إصدار عمل شعري في زمن يبدو أنه زمن غير شعري، فبدا لها أن سؤال الكتابة سؤال وجودي، لا نبحث عن جواب له، بقدر ما نحاول التّعبير عبره عن حيرتنا. "ماذا نفعل بهذا الكائن العجيب والمُتلوّن الذي اسمه الكلمة؟ ولماذا نبذل جهداً كبيراً للاحتفاء به في حياتنا، قُرّاء وكُتاباً، في مجتمعات لا تبالي بها؟ ليس هناك سبب لنكتب الشّعر، أو لنُصدر ديواناً شعرياً، سوى أنّنا نحبّ الشّعر، بقدر محبّتنا للهواء والحياة. ولن يمنعنا زمن ما، أو مزاج الذين حولنا من كتابته، والسّعي خلفه ليل نهار. لطالما كُتب الشّعر في أحلك الأوقات، وفي أجملها. لو استسلم الشّعراء الذين قبلنا لحالة غياب الصّدى والجدوى، لمّا وجدنا ما نقرأه. الهمُّ الحقيقي للشّاعر هو أن يجد جملته، وكلمته، وفكرته التي تستحقُّ الخروج إلى القارئ. ومعركته الحقيقيّة والوحيدة، هي معركته مع الشكّ".
الشاعرة لا تتخوف من سيرتها
من يقرأ المجموعة الشعرية الجديدة لعائشة بلحاج يلمس حضوراً طاغياً للذات، مثلما ينتبه للحضور العائلي أيضاً: الأم، الأب، الجد، الإخوة. تساءلنا مع الشاعرة عما إذا الكتابة الشعرية عندها تنطلق بالضرورة من السيرة، فنفت إمكانية وضع كلّ نصوص الديوان ضمن خانة السّيرة الذّاتية، "نص "امرأة برية" الذي يتحدث عن امرأة كانت راعية أغنام، ليست سيرة، وليتَها كانت. ليتني أمتلكُ ذاكرة راعية أغنام، وليتني سرَحتُ في البراري. أيُّ كتابة هي مزيج من الذّاتية والفانتازيا، ومن صور الذّاكرة التي تعمل وفق قانونها الخاص. لا نملك سوى استعمال ما خزّنته هي، من دون أن نفهم لما ظلّت صورة، أو كلمة، أو رائحة في ذهننا من دون غيرها، ولما حضرت في هذا النّص أو ذاك. من جهة أخرى، أحبُّ أن أتعامل مع الكتابة بسلاسة، ولا أحاول استحضار القصص والجمل، بل أكتفي بمعانقتها كما هي".
تستطرد بلحاج: "هذا لا يمنع من أنّني ركّزتُ في بضعة نصوص على كتابة ما يشبه سيرة ذاتية، أو مقاطع منها. يتخوف بعض الشّعراء من ذلك، لكنني لا أتّفق معهم، فالذّات جزء أساسي من قصيدة النثر، التي لا أحبّها تجريدية بلا هدف، أو بلا طَعم قلبِ الشاعر؛ "لأنّه مرّ، ولأنه قلبي..." يقول الشاعر ستيفن كرين. الكتابة التي لا نضع فيها جزءاً من لحمنا ودمنا، أؤمن أنّها ستكون سطحية، أو فكرية، أو فلسفية مجردة؛ لأنّ الفلسفة تلتقي مع الذّاتي، الذي يجب ألا نستحضره كأنّنا نكتب خواطر، أو يوميات مباشرة. بل أن تبقى السّيرة داخل الشعر، ولا تسقط في التقرير والثرثرة، كأنّ العالم ينتظر أن يسمع ثرثرتنا عن الحياة على الأرض".
النص الشّعري، بنظر عائشة، تجربة خاصة، سواء للشاعر أو القارئ، وإذا لم يصل القارئ إلى شعور أنّ الشاعر يهمس له، فهناك خلل ما. لهذا فهي تحب ترك الشعر في مجاري الغموض، والتجريد المطلق. إذ يجب أن يحمل النص الشعري جزءاً حقيقياً من الشاعر، جزءاً يحمل رائحته ولونه وملمسه، جزءاً غير مزيف وغير مستعار، أو مُؤلَّف.
المرأة لم تُخلق لتخوض المعارك
مثلما نجد بطلاً أو بطلة في الرواية، نكتشف مع عائشة بلحاج وجود بطلة في مجموعتها الشعرية، هذه البطلة تتجلى في صورة امرأة تواجه العائلة وتواجه المجتمع. هذا ما دعانا لنسأل عائشة إن كان قدر الشاعرة، ومعه قدر المرأة، هو المواجهة الدائمة. تقول جواباً عن هذا السؤال: "لا أحد يريد أن يكون الصّراع اليومي قدره. ولم تُخلق المرأة لتخوض المعارك، بل لتعيش. لكن بشكل ما في مجتمعاتنا فُهم الأمر بالمقلوب، وصرنا نرى النّساء ينجَونَ من معركة، ليدخلن أخرى. هو نمط حياة مُتعب للغاية، ويستهلك طاقتهن. لذا أنتصر للرأي القائل بنقل الصّراع من الخفاء والكواليس، إلى العلن؛ حتى يتحقّق احترام إنسانية المرأة. على رغم أنّني أخشى أن المعركة في مجتمعاتنا قد تبقى معركة لا نهائية. وهو أمر مؤسف للغاية".
امتدادا لرؤيتها لهذا المعركة الفيزيولوجية، أردنا أن نعرف إن كانت تنظر إلى الشعر من زاوية الجندر، أي رجل/ امرأة؟ غير أنها اختارت أن تقف في الجهة الموازية لتؤكد لنا أنه "لا يمكن النّظر إلى الشّعر من زوايا اجتماعية أو سياسية. الشّعر كائنٌ عظيم يتجاوز الفوارق كلّها. ما يُكتب داخله يعود إلى شخصية كلّ شاعر، وإلى همومه وهواجس روحه، وأصواته الدّاخلية، وصدى ما عاشه على الأرض من أحداث، وما رآه من عواصف، وهذا ما يجعل قراءة كلّ تجربة رحلة خاصة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعمّق الشاعرة فكرتها على هذا النحو: "أحبُّ أن أجد الشّاعر في ما يكتب، وحين أحبّ شاعرةً أو شاعراً فبكلّ كيانه. أحبّ تفاصيل هذا الشاعر، وعمق تلك الشاعرة، وهكذا. لذا أستغربُ حين يكتب شخص متنكّراً لجندره. فيُقال إنّ الشاعرة الفلانية لا تستحضر وجودها الأنثوي، كمديح. الكاتب يكتب بكل كينونته، ومظاهر وجوده بما فيها الجنس والثقافة واللغة. والرّجل يفعل ذلك دائماً من دون تعليق. لكنّنا نقول إنّ المرأة تكتب انطلاقاً من كونها امرأة. طيب، ما العمل؟ هل تكتب كرجل؟ أو كمجهول؟ شخصياً بذلتُ جهداً لئلّا أفعل، ولأتخلّص من ضمير المجهول، الذي كتبتُ به بداية، في ديواني الأول مثلاً. حيث لم أكن قد امتلكتُ لغتي الخاصة، وكنت لا أزال متأثّرة بالصّوت الذكوري في الشّعر. فمن السّهل اتخاذ ضمير المجهول في نص، لأنه مذكّر، ومن السّهل استخدام ضمير المذكر أيضاً لأنّه هو الشّائع. لكن الضّمير المؤنّث يُغير وجه اللّغة، ويدفع بعض القراء للظنّ بأن هذه الكِتابة نِسوية حصرياً. بينما هي مؤنّثة لأن المتحدّثة امرأة، أما المعاني فهي أشمل من ذلك".
تكلفة الأدب غالية
تساءلنا مع عائشة بلحاج عن السر في قلة الشاعرات في المغرب قياساً مع عدد الشعراء الذكور. فأكدت لنا أن الأمر يسير على غرار مختلف مجالات الحياة العامة بالبلاد، لذلك "نجد حضور المرأة ضئيلاً في الشّعر، بسبب العوائق الاجتماعية بلا شك. لأن الشّعر ليس موهبة فحسب، بل هو سعيٌ دؤوب نحوه؛ في الحياة، وفي القراءة وفي التّفكير والتأمل. كم من امرأة تملك هذا التّرف؟ أو تجرؤ على طلبه؟ وتقبل بالتضحيات التي يتطلّبها الأمر؟ قليلات هنّ، لذا الشاعرات بالفعل قليلات. لقد تطلب منّي الخروج من الدائرة الاجتماعية التي تحاصر المرأة، تضحيات كبيرة، لأستطيع اللّجوء إلى نفسي، وأخلق نمط حياة خاصاً". تتساءل عائشة: "هل كل امرأة مستعدة لذلك؟ لا أظن، لأن التّكلفة غالية، أكبرها أن الآخرين سيعتبرونها شاردة عن القطيع، وهو ما يؤدّي إلى خسارتها كل المزايا الاجتماعية، التي لا نحصل عليها إلا بدفع تكلفتها من وقتنا وجهدنا وطاقتنا. فالحرّية مُكلفة للغاية، لكن غيابها موت حقيقي، ولا يمكن أن نكتب بأرواح سجينة".
حين أردنا أن نفتح مع بلحاج باب مقارنة الشعر في المغرب مع بلدان المشرق العربي، لم تحبذ هذه التّقسيمات الجغرافية، إذ بدا لها أن "الشّعر هو نفسه في كل مكان، ولا تتدخل جنسية الشاعر في قراءتي له. ولا أجد أنّني قد أنبري للدفاع عن الشعر في المغرب، مثلاً مقابل الشّعر في المشرق. هذه ليست معركة الشّعر. الشعر موجود في مكان ما بقدر ما نعتنقه. وهو معركة فردية بالخصوص، ليس فيها انتماء محلي أو جغرافي".