"يجب الرسم، والرسم بكثرة"، كان الفنان الفرنسي بيسارو يقول لتلاميذه. لكن مواطنه وتلميذه بول غوغان (1848 ــ 1903)، الذي اتبع نصيحة معلمه، كان يعتبر أن "اتقان الرسم لا يعني الرسم جيداً"، وأنه في النهاية يتحلى بالأهمية نفسها التي يتحلى بها التلوين لأن ممارسته تساهم في تكوين الفنان ريبرتواراً من الصور الضرورية لعمله التشكيلي. هذا ما يتجلى في معرض "مدرسة بون آفن، تنويعات حول الخط" الذي ينظمه حالياً متحف مدينة بون آفن (بريتانيا) ويسمح، عبر تسليطه الضوء على الرسوم الإعدادية التي وضعها غوغان وإميل برنار (1868 ــ 1941)، بكشف دورها في إنجاز هذين العملاقين لوحاتهما الزيتية الكبرى.
وتجدر الإشارة بداية إلى أن إقامة غوغان الأولى في مدينة بون آفن، التي حصلت عام 1886، أثمرت عن رسوم بأحجام كبيرة وعلى أوراق أكبر من تلك التي كان يعمل عليها سابقاً. رسوم أنجز بعضها بمادة الباستيل ورصدها لموضوع العري. وخلال إقامته الثانية في هذه المدينة، عام 1888، اختبر رسماً أكثر راديكالية يتميز بخط أسود سميك يحيط بشخصياته ويحدد نطاقها. تقنية استوحاها مع صديقه إميل برنار من فن الزجاجيات، وعرفت بـ"الحوجزة" (cloisonnisme) لكونها تقوم على استخدام ألوان صافية واعتباطية على شكل مسطحات يحدها ويفصل بينها خط أسود إيقاعي، كما تتميز برسم مبسط لا يهجس بتمثيل الأبعاد.
كل الفنون
وفي الواقع، شكل الرسم حاضنة لجميع الفنون التي مارسها غوغان. فبموازاة الدراسات كبيرة الحجم بمادتي الباستيل والفحم، ملأ دفاتر كثيرة برسوم إعدادية، منها ألبوم "بريان" الذي انتهى في متحف أورسيه ويتضمن أبحاثاً من مرحلة بون آفن، وتحديداً رسوماً لنماذج خزفيات أنجزها إثر لقائه بالنحات والخزاف أرنست شابلي. في المقابل، تركت ممارسته لفن الخزفيات، بزخرفاته المنمقة والمحفورة في المادة، أثراً بليغاً على رسمه وطريقته في تبسيط خطوطه. وبالنتيجة، تشهد رسوم كثيرة له على شفافية الحدود التي تفصل عادةً بين الفنون، وعلى تنقل النماذج من تقنية إلى أخرى، ومن وسيط إلى آخر.
وحين نتأمل في رسوم غوغان المعروضة حالياً نلاحظ فوراً أنه سعى خلف الحصيلة، ولم يكترث للتفاصيل، بل للخط الموجه والتزييني. نلاحظ أيضاً أن إيقاع الخطوط في رسمه تعززه وضعيتها العمودية، ونطاق الأشكال مبسط بطريقة تستحضر إلى أذهاننا فن الكهوف. نلاحظ أخيراً- وليس آخراً- أن غوغان كان يعمل وفقاً لخطوط قوة وبطريقة تسمح في استخلاص جوهر الشيء المتأمل فيه، الذي يمكن أن يكمن في تفصيل معين: ثقل قدم، اعوجاج ظهر، تداخل طيات قلنسوة بريتونية... ولبلوغ حصيلة شكل ما، لجأ أيضاً إلى الألوان المائية. ففي الرسم الذي تظهر فيه عربة يجرها حصان وقروية تحمل سلة، على سبيل المثال، غطى بمسطحات لونية تفاصيل رسمه بطريقة تبسط صورة القروية.
وفي عام 1888، تحاور غوغان مع برنار لابتكار رؤية جديدة. حوار تشهد عليه لوحته "رؤيا بعد الموعظة" التي تحاكي بوضوح لوحة برنار "نساء بريتانيات في المرج". لوحة أسطورية نشاهد رسمها الإعدادي في أحد دفاتره ويتبين من مقارنتهما حذف الفنان فيها الخط الفاصل بين النساء البريتانيات الثلاث الحاضر في الرسم. وفي الصفحة الخامسة من الدفتر نفسه، نقرأ: "حقيقة العين والأحاسيس. لماذا نختلف؟ لا نظام". دفتر تشبه بعض رسومه رسوم الأطفال، ونستشف فيها اعتماد غوغان نظرة "بدائية" للأشياء. وإذا كانت لوحته المذكورة مشبعة بالمراجع الفنية، فإن رسمها الإعدادي، برعونته وجانبه المبسط، يترجم ذلك البحث عن "حقيقة العين والأحاسيس".
نظرة مستقبلية
وفي ألبوم جمع فيه رسوماً له وأخرى لبرنار ولويس روا، ورسائل وصور فوتوغرافية، كتب: "أما بالنسبة إلى (الفنان) دوغا، فلا أكترث إطلاقاً لعمله. لن أرصد خمس جلسات لصقل إبهام وفقاً لموديل". وفعلاً، بخلاف دوغا، لم يسع غوغان خلال إقامتيه في بون آفن خلف الكمال في رسومه، فالرسم بالنسبة إليه كان قبل أي شيء أداة لأعمال مستقبلية، وفيه يتبلر التبسيط الأول الذي ستجتمع انطلاقاً منه الأشكال والألوان بطريقة موسيقية وروحية في العمل النهائي.
من جهته، مارس برنار الرسم في بون آفن بطريقة متنوعة. فبين 1886 و1891، طور أسلوباً بدائياً راديكالياً وشديد التعبير، ثم عاد إلى الكلاسيكية وإلى دراسة أعمال المعلمين القدامى خلال التسعينيات. وفي المعرض الحالي، نشاهد له سلسلة رسوم أنجزها في سان برييو عام 1888 بمادتي الغواش والأكواريل وفقاً لتشكيل مبسط وبألوان موحدة. نشاهد أيضاً رسوماً أنجزها على أوراق صغيرة بمادتي الغواش والباستيل، وتتميز بألوان صافية وحادة متراكبة، وبتواري نطاق الأشياء الممثلة نظراً إلى رسمه إياها بالألوان وحدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن أعمال أخرى حاضرة في المعرض، يتبين أيضاً أن برنار مارس الرسم في الهواء الطلق، كما يشهد على ذلك مشهد من سان برييو حققه عام 1886 بلغة رسومية مشفرة، إذ رسم السماء بنقاط سريعة، والأرض بتهشيرات (hachures)، وأسفل جذع شجرة بخطوط رفيعة متشابكة، والشجرة التي على اليسار بخطوط أفقية مائلة. وبتدرجاته اللونية ومناخه، يستحضر هذا الرسم بعض رسوم بيار بونار.
وضمن سعيه إلى التبسيط التعبيري، لجأ برنار إلى الحبر والريشة، على طريقة الخطاطين، ومزج غالباً الرسم بقلم الرصاص والرسم بالألوان المائية ومادة الغواش، واختار قلماً سميكاً يساعد على تبسيط الأشكال. ففي الأعمال التي رصدها لأشجار تفاح أو لمشاهد قطاف في بريتانيا، يبدو الخط خشناً، بيانياً، بلا تفاصيل، بينما تتميز الألوان بحدتها ودقتها. وفي رسم بقلم الفحم من عام 1889، يتجلى هاجس التمثيل المبسط لديه من خلال إهماله فتنة المشهد المرسوم لصالح اختصاره بخطوط موجهة، إيقاعية، عمودية أو مائلة.
أما رسمه ذو الأسلوب الكاريكاتيري، "حصيلة، كابوس"، الذي وهبه إلى غوغان، ويحضر فيه بين هذا الأخير وصديقهما الرسام إميل شوفنيكير، فيوثق لجانب جوهري وحصري في الرسوم، أي مسألة تبادلها بين الفنانين، وتشكيلها بالتالي معادلاً بصرياً للرسائل، أو رسائل بصرية لا تحتاج إلى تأويل.