Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خلود شرف تكتب يوميات رحلة العودة … هرباً من الحرب

فازت بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات

كتاب خلود شرف الفائز بجائزة ابن بطوطة (اندبندنت عربية)

بعيداً عن المفهوم التقليدي لأدب الرحلة، وفي ظل الحرب القائمة في سوريا، تكتب الشاعرة خلود شرف، في كتابها الجديد "رحلة العودة إلى الجبل"، بمزيج من اللغة الشاعرية والسرد التوثيقيّ، مثلما تكتب بعين المصوّرة والرسّامة للمشاهد الطبيعية، لتقدّم لقارئها جوانب من سيرتها، سيرة تتنقل فيها بين "ذاتها" الفردية المطلقة، وبين سيرة المكان- الأمكنة، متمثلة في بلدها سوريا عموماً، ومدينتها السويداء خصوصاً، وقريتها المجيمر على نحو أشدّ خصوصيّة. وزمنيّاً، تبدأ من اللحظة السوريّة الراهنة، الحرب والدمّ والضحايا، وتأخذنا عبر الأزمنة والحضارات التي مرّت على سوريا، جاعلة كتابها "رحلة" في أزمنة وأمكنة عدّة، فيظهر الإنسان بوجوهه وعوالمه التي سنحاول إلقاء الضوء على بعضها.

في الكتاب الذي فاز بجائزة ابن بطّوطة في دورتها السابعة عشرة، (صدر حديثاً بنشر مشترك بين المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، ودار السويدي للنشر والتوزيع والإعلان، 164 صفحة)، تنتهي الكاتبة من حيث بدأت. ففي فصل أخير بعنوان "وصيّة رحلتي"، تكتب ما يشبه رثاء النفس "الآن سأكتب نعْوَتي وأحمل أشلائي بكيس الصوف الذي حاكته لي أمي في صغري، وأودّع كل من يحبني. لا تنسوا وصيتي لا تعاملوني كعدد..".

ومنذ البداية، تصرّح الكاتبة عن طبيعة رحلتها أنها "رحلةٌ عبر زمنٍ تمت استعادته، هرباً من المأساة، فهي مزج بين الطفولة والحاضر في مكان تقطنه الأسطورة، والتقمّص في جنوب سوريا، في محافظة السويداء. رحلة سبر في النفس، واختلاجاتها وهواجس الوجود الشخصي، أسئلة مفتوحة على المتناقضات، يقطنها الخيال المتشرّب من المكان، وتغزوه الحرب بآلات الموت". وتختم بقدر من التأمّل "نحن لسنا ما نظنّ أننا نعرفه. نحن ما نجهله وربما يعرفنا، ماضٍ مشبوه بنا. ينسج الخيال بالواقع ليصير مستساغاً. بينما الأماكن تتسع بالحب".

إنّها عوالم الشاعرة التي عشنا بعضها معها في مجموعتها الشعرية "رُفات فراشة" (دار التكوين، 2016)، إذ وضعتنا في مناخ عامّ جنائزيّ مأسويّ، فكُنّا حِيال عالم تستعير له جنازة الفراشة، ليطاول الكونَ وكائناته، الطبيعة والبشر والتاريخ والميثولوجيا، فكلّها تسير في جنازات، وكلّ منها تروي وتسرد جانباً من مأساة الوجود والإنسان. إنها قصة الوجود نفسه ما تنهل الشاعرة منه، هنا وهناك. بل إننا نجدها تكرّر هنا، على نحو ما، تساؤلها الحارق "لِم كلّ هذا الرهان على مبضع الحرية/ لم كل هذا الدم باسم الربّ وروح القتيل وما بينهما؟"، فإننا نستطيع الشعور معها أن هناك دائماً "دالية أملٍ/ لانتهاءِ الألَم".   

نبقى هنا، في هذه الرحلة التي يبدو أن "العائدة" فيها قد رجعت من مكان غامض، وقد يكون السماء "في طريق عودتي من الجنة" تقول، تاركة وراءها "طفلها". وللعلم، فنصوصها لا تخلو من طفل ما. في "رفات فراشة"، رافقنا الطفل مِهيار بشخصيته المأسوية.. تبدأ الشاعرة رحلتها بمشهد يجمع التراجيدي والفانتازي: "قطفتُ زهرة الجنة... بقيتْ الزهرة بيدي، وطفلي صار جذعه السفلي خشباً، وجذعه العلوي بشراً. استيقظت ورائحة الزهرة تزكم أنفي، وصوت يخرج من بطني كخوار بقرة مات وليدها. لقد قطفت زهرة صامويل تايلور كولريدج، ما السرّ أن يدخل بلحظة ما، المنام نفسه إلى شخصين في زمنين مختلفين، ومكانين مختلفين؟".

رحلة استكشاف

نبدأ من السويداء، فهي شِعريّاً وواقعيّاً ربّما "وردة جبلية وحشية من حوران، في جنوب الحياة من سوريا، تنمو كما الأساطير، في علبة زجاجية تنفتح منها على كل الحياة، وتنغلق على نفسها". ومنذ البداية، نلمس وجود ظلّ ما للكاتبة، لعلّه قرين تُخاطبُه وتحاوره ويقودُها ويدلُّها إلى ما نسيت من الأماكن. هذا القرين يبدو أنه الكاتبة تستدعيه من طفولتها، الطفلة التي تسعف "العائدة" إلى قريتها من دون أن تكلّم أحداً سوى سماء هذه القرية، فترتاح "على سهلها النازل من التل بهدوء شيخ جعل الحجر الأسمر عكازاً له. وبقيت أنا ورائحة الزهرة ننتظر اللاجدوى".

وما بين التأمّل والتذكُّر والكتابة الحُلُمية، تسترجع الكاتبة الكثير من "تاريخ" قريتها ومدينتها، القريب والبعيد المرتبط حضارة الغساسنة، وتعيد تكوينه بسرد ممتع ومكثف وشاعريّ في غالبية الأحيان. تستعيد النساء والشيوخ والأطفال، الساحرات والخرافات والألعاب، تتأمّل في معاني الأشياء ودلالاتها المتحوّلة. ولعلّ عناوين فصول الكتاب ومقطوعاته تدلّ على غنى وعمق كبيرين. وفضلًا عن العناوين، ثمة افتتاحيات الفصول، فلكلّ فصل افتتاحية مقتبسة من شاعر أو فيلسوف أو فنان، لكن الغلبة لمختارات من ريلكه مع حضور لدرويش وبيسوا.

من أبرز عناوين الكتاب، نقرأ الكثير مما يتعلّق بهذه الرحلة المتعددة الوجوه والأبعاد: خطوات في المجيمر، صباح شتويّ، شخوص من الذاكرة، تربة خصبة، قدوم المغاربة، حكايا الطفولة، رحلة الأسطورة رحلة عشتار، المشروب الشعبي، يوميات ساخرة، رحلة جسدين، جذورنا الأرض فروعنا المحبة، الرقص، أجلس وأقرأ أسطورة ليليت، يـوميات حرب: رحلة شظية في جسد، قوس قزح، مفردات متداولة في الجبل. إننا حِيال عالَم من الأنثروبولوجيا، في صياغة أدبية رفيعة.

تفتتح الكاتبة فصل "رحلة العَوْد من الجنّة"، باستحضار ريلكه يتساءل إنّنا "نرتّب ونشكّل الكلمات بألف طريقة، لكن كيف يمكن أن نتساوى مع وردة؟". ثمّ نجدها تستحضر ماضي القرية والتحوّلات الطارئة عليها، فالماضي هو مجرد ماضٍ يتفاخر به الناس على أنه "قيم عريقة وبطولات وحضارة.. حياة مزارعين، يجيدون الانتظار والترّقب، ويجيدون الخيبات والخسارات والفقد، يحملون أرواحهم على أكفّهم، راحلين باتجاه خيبات أخرى في دول أوروبية وعربية... روح المدينة، قرية أضاعت هويتها، حتى صارت شبحاً، كثير الكلام، قليل التأمل..".

وفي مقطوعة "النبات والتربة"، النثرية بروح شاعرية، كما في غيرها، تهتف الكاتبة وهي تتحدّث عن فواكه ضيعتها ونباتاتها، تهتف بحبّ وفرحٍ طفوليّين إنّ "أشهى عنب العالم في السويداء، وأشهى تفاحه. فالسكّر هنا يعرف كيف يُختزن بجدار رقيق مائي ثريّ". وعن علاقة القرية بالطفولة، تكتب شرف "جَمال الضِيَع وهواؤها يفتح فيك أزهار طفولتك التي نسيتها على ظهر التل.. عندما تعود إلى مكان طفولتك تتلكأ في المشي".

وأخيرًا، ها هي في فصل "رحلة إلى روما الصغرى"، تتحوّل باحثة ميدانية "تنبش" تاريخ مدينتها، فتستحضر طفلتها من الذاكرة وتبدأ وصف المكان والطبيعة والكائنات- الحيوانات وسواها الكثير "مدخل السويداء من الشمال يرافقك بطبيعة صخرية كريمة بروحها، لا تغفو الحياة بها، كما لو إنها محارب قديم، تبدو وكأنها قصة خرافية عن كائن ضخم عندما رأته الشمس تصلّب.. وحدها الطفلة الشقية من كانت تُصغي كخيميائية، تمسك بيدي وتقودني لنقترب منه.. وأهم من يعرف حقيقة المكان هم المُسنّون، أو المهتمون بهذه الحاضرة، فذهبنا لنستشير ونسأل عمن يدلنا على حيثيات المكان، بعدما قرأت الكثير عنه..". هو وصف باحثة ورحّالة معاً، جمعت معلوماتها ومشاهداتها على حد سواء.

المزيد من ثقافة