أسماك لامعة تضطرب بعد خروجها من البحر، عيون كبيرة تتلفّت حائرة نحو الميناء، قارورة كبيرة تطفو فوق الأمواج، سمكة صنعها الفنان من بقايا النفايات الإلكترونية، أمواج تعقبها أمواج حتى الأفق البعيد، أشكال هندسية هي أقرب إلى المنمنمات العربية القديمة... تلك هي بعض الرسوم التي نراها على جدران مدينة سوسة هذه الأيام، رسوم كبيرة، تغطي جدران مدرسة أو عمارة سكنية أو بناء آيل للسقوط... وربما تسلقت هذه الرسوم كما تتسلق الدوالي الجدران حتى تصل إلى السطوح لتتفرّع فيها.
"فن الشارع" هو فن اللحظة، لا يرجو البقاء طويلاً، وما هذه الرسوم الجميلة التي تملأ شوارع مدينة سوسة التونسية إلا دليلاً على ذلك. فهي في الهواء الطلق، تحت أشعة الشمس الحارقة، تخاطب الجمهور ردحاً من الزمن ثم تبهت شيئاً فشيئاً لتنطفئ في آخر الأمر.
"أردنا أن نحوّل مدينتنا إلى رواق مفتوح، إلى متحف فني كبير، غايتنا أن نردم الهوة بين الفن والحياة، بين الفن والمدينة"، يقول كريم الصغير، صاحب "رواق البيرو" الذي أنجز هذه التظاهرة الفنية الكبرى، ثم يضيف بحماسة الفنان: "اللوحة الصغيرة، ضاقت عن أشواق الفنان وأحلامه، بخاصة بعد هذه الأشهر الطويلة الحزينة من العزلة بسبب الجائحة ولهذا رأينا أن نجعل جدران سوسة قماشة الفنان ولوحاته الممكنة". ودعا "رواق البيرو" الذي يديره كريم الصغير عدداً من الفنانين الكبار الذين أسهموا في نفخ الروح في هذه الجدران الجامدة، وأعادوا إلى مدينة سوسة التي عانت من هول الأزمة الصحية شيئاً من البهجة والفرح.
فن الشارع في تونس
ولتونس خبرة بفن الشارع، بل بات لها عدد كبير من الفرق التي اختصت بهذا الفن، بعضها اختار الرسم على الجدران، وبعضها آثر الكتابة "الغرافيتي"، بينما مال البعض إلى فنون القول كالشعر والحكي.
ازدهر هذا الفن غداة الانتفاضة التونسية عام 2011، بحيث انتشر عدد كبير من طلبة المعاهد الفنية في الشوارع يحوّلون بياضها إلى رسوم غاضبة. وفي ظرف أيام قليلة، تحوّل عدد من الشوارع في تونس العاصمة إلى ورشات فنية من دون سقف ولا جدران. كان حلم الفنانين في تلك المرحلة "افتكاك" شارع لم يكُن يمتلكونه، من أجل تطويعه إلى أحلامهم. كانت حماسة هؤلاء الفنانين الذين اكتسحوا الشارع كبيرة، فغايتهم، من كل التظاهرات التي أقاموها، التبشير بفن آخر مختلف، فن يقول لحظته التاريخية من دون تردّد ولا مواربة. فن يستبدل الرواق بالشارع، والزبائن الأغنياء بعامة الناس، واللوحة المحفوظة داخل المتاحف بالرسوم تملأ شوارع المدينة وأزقتها.
في هذا السياق، ظهرت جماعات فنية كثيرة تركت بصمتها واضحة على الشوارع التونسية لعل أهمها جماعة "أهل الكهف" وتتكون، على وجه الخصوص، من فنانين أكاديميين تخرجوا في مدارس الفنون الجميلة. وتميزت أعمالهم بنضج فني لافت، وباتت جدارياتهم التي أُنجزت في خضم الأحداث الساخنة التي شهدتها تونس خلال عام 2011 مراجع للشباب في الأعوام اللاحقة يستلهمونها ويقتفون أثرها.
ومن الجماعات التي جذبت الانتباه في تلك المرحلة جماعة "زواولة" وهذه العبارة تعني الفقراء، واختصت بفن "الغرافيتي" الغاضب، المحتج على الظروف السياسية والاجتماعية التي تكتوي بنارها تونس. وكانت نبرتها عالية بل ربما جارحة. وتمت محاكمتها في 2012، إضافة إلى مجموعات أخرى اختصت بالغناء أو الشعر أو المسرح. لكن هذه الفرق سرعان ما تلاشت وتشتتت ولم يصمد منها إلّا بعض الأشخاص الذين آمنوا برسالة "فن الشارع" يريدون ترسيخه في العقول والأذهان. في هذا السياق، أُنجزت هذه التظاهرة منذ عام 2015 لتبعث "فن الشارع" إلى الحياة من جديد. ولكن هذه المرة في مدينة سوسة الساحلية التي ظلت إلى وقت قريب مدينة "الأعمال". كانت غاية "رواق البيرو" فتح المدينة على الفن، الفن على وجه الإطلاق، لإضفاء لمسة فنية على حياتها الاقتصادية الجادّة.
البعد الاجتماعي والسياسي
ارتأى صاحب الرواق ومدير المهرجان أن يحمّل الفنانون أعمالهم رسالة، موقفاً، وجهة نظر، "ففن الشارع" فن وظيفي، هكذا كان، على امتداد تاريخه الطويل، في نظر كريم الصغير. "وأن يكون الفن وظيفياً، فهذا يعني أنه لا يكتفي بإشباع الرغبات الروحية للإنسان بل إنه ينهض بدور اجتماعي وسياسي أيضاً. ففن الشارع ليس جميلاً فحسب، بل إنه مفيد أيضاً".
واختارت كل دورة تيمة معينة تدور حولها كل الأعمال الفنية وتيمة هذه السنة هي "الإنسان والمحيط".
الغرض الأول من التظاهرة ترسيخ العلاقة بين المدينة والفن. فالفن ليس ترفاً أو نفلاً زائداً، وإنما هو العنصر الذي يخلع على هذا الفضاء بعداً إنسانياً وروحياً. من دون فن، تتحوّل المدينة إلى مرآب كبير للسيارات لا حياة فيها ولا روح. وإذا كان الفن التقليدي يستدعي تنقّل الإنسان إلى رواق لمشاهدة عمل فني، ففي هذه التظاهرة ينتقل الفن إلى الإنسان يعرض عليه إنجازاته. "فن الشارع" يستعيد أقدم أدوار الفن وهو أن يكون خيطاً في نسيج الوجود.
اختيار المكان
إن انتقاء الأماكن التي يرسم على جدرانها الفنانون أعمالهم الفنية ليس عشوائياً. فالاختيار يتجه، في الأغلب الأعمّ، إلى وسط المدينة الذي فقد حضوره القديم بعدما هجره أهله باتجاه الضواحي الجديدة التي تتوافر على كل الإمكانات الحديثة. "نريد من أهلنا الذين تخلّوا عن هذه الأماكن القديمة أن يعودوا إليها، أن يكتشفوا من جديد جمالها وسحرها"، يقول مدير التظاهرة. ويضيف: "نحن نتقصّد وضع رسومنا على أماكن معينة من أجل لفت الانتباه إليها. ففي كل زاوية من هذه المنطقة، هناك معلم تنبغي زيارته واكتشافه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن أجل دعم هذا التوجه، ينظّم الرواق زيارات إلى الأحياء التي رسم الفنانون جدرانها، وأثناء هذه الزيارات، يعيد الضيوف اكتشاف هذه الأماكن، ويتأملون الأعمال الفنية، وربما دخلوا في حوار مع الفنانين، هكذا فتصبح التظاهرة احتفاء بالمدينة وبتراثها الهندسي العريق.
من الفنانين الذين يشاركون في هذه التظاهرة: مروان عبودة، عمر باي، ماجد زليلة، قناوي سيبال، نسرين عبد المجيد دوزي، ريم بن بوبكر وعادل حيدر... كل هؤلاء أسهموا في إنجاز رسوم عملاقة وتمكّنوا من جذب العابرين العجولين للحظات، لتأمل الجدران وربما لتأويل ما جاء فيها من رموز. والأهم من كل ذلك أنهم فتحوا في جدران المدينة العمياء نوافذ يبصر من خلالها أهل المدينة نماذج مشرقة من الفن الحديث وهو أمر ما كان ليُتاح لهم لولا هذا المهرجان.