منذ فيلمه الشهير "الجمال العظيم"، الذي عرّفه إلى العالم أجمع، لم تتوقف كاميرا المخرج الإيطالي باولو سورنتينو عن الدوران. حتى عندما انسحب الناس إلى المنازل، وجدناه ينجز فيلماً قصيراً ضمن مجموعة أفلام عن الحجر الصحي عُرض على "نتفليكس". قدم أشياء مختلفة تعكس فشلاً واضحاً في الامتناع عن الكلام لوقت طويل. ربما ينبغي مشاهدة "كانت يد الله" المعروض حالياً في مسابقة مهرجان البندقية السينمائي "1-11 سبتمبر (أيلول)" كي نفهم بشكل أفضل حساسية هذا الرجل، ونكتشف من أين جاء بكل هذا الشغف بالفن السابع، مع التوضيح بأنه لا يفصح الكثير عنه. ولكن، مع ذلك، مَن شاهد أعماله سيجد طريقه إلى مصدر الدهشة عنده، وكيف يتلاعب بالسينما، بين ما أخذ منها عندما كان مراهقاً وكيف أصبحت وسيلة التعبير الوحيدة لديه بعدما تجاوز الخمسين بعام.
فيلم "كانت يد الله" هو الفيلم المنتظر والمتوقع من فنان وُلد في نابولي، مدينة لا يمكن الفكاك منها بسهولة وتظل في الوجدان، مهما كبرت سناً ومهما صار العالم الواسع ملعبك. نابولي بناسها وحكاياتها وصخبها وتاريخها، نابولي التي لم يصوّرها سورنتينو قط منذ عشرين عاماً. ومَن ولد ونشأ وعاش ذكرياته الأولى في مثل هذا المكان الساحر، لا بد أن يكون له حكاية يرويها، أو قصيدة يؤلفها، أو فيلم يصوّره. وهذا ما خطر في بال سورنتينو، أن يروي أكثر شيء ملم فيه: تجربته الشخصية، الوجدانية، المعذبة، منبع كل شيء صنعه. النتيجة: فيلم على نسق "أماركورد" لفيلليني، الذي لم يكن يوماً غائباً عن العالم الذي اخترعه سورنتينو، بل يمكن القول إنه أكثر السينمائيين فيللينية. وكمعلّمه، سيرته نصف مخترعة ونصف حقيقية. وفيلمه هذا، كما بعض من قديمه، مشبّعٌ بروح -وشخصية- صاحب "ثمانية ونصف"، يتجول في ذاكرته البصرية من دون أي عقدة. هل هي تحية للمعلّم أو تماهٍ معه؟ أيهمّ البحث عن جواب والأمور قد وصلت إلى هذه المرحلة من الانصهار؟
صنعة إيطالية صرفة
العمل شديد الخصوصية وحميمي إلى درجة، خصوصاً في اللحظات الأخيرة عندما يتحرر من التزامات بناء الشخصيات وربط كل شيء بمحيط وبيئة لمدِّه بخصوصية اجتماعية. إستيتيكياً، نحن حيال صنعة إيطالية صرفة، سواء في حركة الكاميرا أو السيناريو الذي يتيح تداخلاً بين الشخصيات والقصص على نحو يوحي بأنه فوضوي. هذه مدرسة الباروك الإيطالية. سورنتينو يكشف هنا عن لحظة مصيرية في حياته لازمته طويلاً: موت والديه في حادثة تسريب لمواد كيميائية قاتلة خلال وجودهما في شاليه خلال العطلة الصيفية. بعيداً من التضامن الإنساني البدائي، يجب القول إن الاطلاع على معلومة كهذه في شأن سينمائي مثل سورنتينو ليس تفصيلاً بسيطاً. هناك تواريخ تحدد شخصية الفنان إلى الأبد. سورنتينو لا يستغل الحادثة، يصورها كبوح. لا نرى الحادثة، نسمع عنها. تماماً كما هو لم يرَ جثة الوالدين.
فيلم كهذا ما كان ممكناً قبل خمس أو عشر سنوات. فهو يتخمر وينطلق في الزمن المناسب. بلغ سورنتينو الخمسين قبل عام ووجده الزمن الملائم. اكتشف أيضاً أن سيرته وهو صبي خلاصة مساومة بين لحظات حب ولحظات ألم. وأي وسيط أكثر من السينما يمكنه التعبير عن هذا المزيج من الإحساسين؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فابييتو سكيزا، الذي لا يتجاوز الـ22 سنة، يلعب الأنا الآخر لسورنتينو، وهو الاكتشاف الأكبر في أول دور له أمام الشاشة. تعابير وجهه لن تفارق المُشاهد بسرعة، خصوصاً في اللحظات التي يكاد ينظر فيها إلى العدسة.
يقول سورنتينو في مقابلة مع الصحافة الإيطالية إن أفلامه كلها ولدت من أحاسيس كان شغوفاً تجاهها، ولكن ما إن أفلمها حتى تطاير الشغف، فاعتقد أنه إذا أنجز فيلماً عن مشاكله، فقد يتمكن من نسيانها أو تجاوزها أو التغلب عليها، في الأقل جزئياً. إنه، إذاً، فيلم علاجي نوعاً ما، إلا إذا كان أيضاً فيلماً يضع صاحبه في دوامة جديدة، في نزاع مفتوح، آخذاً بنصيحة الرجل المخضرم الذي يقول له في الفيلم بأن لا سينما من دون صراع.
كرة مارادونا
ختاماً، ماذا عن العنوان "كانت يد الله"؟ كل هواة الكرة، يعرفون ماذا تعني تلك العبارة التي لفظها اللاعب الأرجنتيني دييغو مارادونا يوم لامست يده الكرة وهو يضعها في الهدف. مارادونا الذي كان بطلاً وأيقونة عند المراهق الذي كانه سورنتينو في الثمانينيات. والفيلم ينشغل بأسطورة الكرة كثيراً، خصوصاً أن الأحداث تقع في مرحلة زمنية كان مارادونا يلعب فيها في نادي نابولي. هذه أيام مجيدة لا تسقط من ذاكرة المخرج، الشغوف بالكرة بدرجة شغفه بالشاشة، ويرويها في كل روعتها و"غلامورها" وتفاصيلها المجنونة وشخصياتها العجائبية (في مقدمها شخصية العمّة) وأجوائها الغرائبية حيث الحدود بين الخاص والعام تتلاشى كما كانت الحال دائماً في السينما الإيطالية التي يأخذ منها سورنتينو مرجعاً له.
هذا فيلم آخر لن يُحدث إجماعاً عند النقاد. هناك دائماً صنفان من الآراء حول سورنتينو: مَن يعتبره عبقرياً ومَن يرى فيه "نصّاباً" (نعم هذا ما كتبه ناقد في مجلة "ليه انروكوبتيبل" الفرنسية ذات مرة)، انتهازياً محتالاً، لا ذوق له ولا فضيلة. أقلام فرنسية وإيطالية كثيرة مرَّغت المخرج المتأثر بفيلليني في الوحل عبر تاريخه، حدّ أن أحد النقاد الإيطاليين المطلعين على كل شاردة وواردة تكلم عن مؤامرة تُحاك ضده. فناقد "ليه انروكوبتيبل" كتب يومها أن سورنتينو "أسوأ مخرج في العالم". لكن، بحفنة أفلام، استطاع سورنتينو أن يفرض رؤية سينمائية وعالماً متكاملاً يتسم بالمبالغة المحببة والتفخيم الذي صار له أنصار وأعداء أينما كان. هذه الرؤية وهذا العالم تعززا فيلماً بعد فيلم، فجعلا مخرجه يقفز نحو فكرة العولمة التي ترسخت كثيراً مع فيلمه "شباب" (الذي صوّره بالإنجليزية)، واليوم ها هو ذا يعود إلى المكان الأول، في مبادرة تنم عن وفاء وحب.