يعتقد النظام في إيران أنه قادر على إعادة خلط الأوراق في اللحظة التي يعتقد فيها أن الأمور لا تسير لمصلحته. وهنا، لا يمكن التفريق بين فريق إصلاحي وآخر محافظ. بالتالي، فإن خيار "الصبر الاستراتيجي والصمود" في وجه العقوبات والتصعيد والحصار الأميركي يعتبر الخيار الثالث من بين خياري الحرب والتفاوض، المطروحين في الجدل الدائر على الصعيدين الدولي والداخلي الإيراني.
إيران، التي سبق لها أن خرجت في أكتوبر (تشرين الأول) 2004 من اتفاق مع الاتحاد الأوروبي بالترويكا (الفرنسية والألمانية والبريطانية مع ممثل السياسة الخارجية للاتحاد خافيير سولانا) ينص على قبول إيران بتعليق أنشطة تخصيب اليورانيوم والبدء بتنفيذ سلة من المحفزات الأمنية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية، قد لا تتردد هذه المرة في الذهاب إلى مثل هذا الخيار وإعلان الانسحاب التدريجي من الاتفاق النووي الموقع مع مجموعة 5+1، في حال لم تحصل على المحفزات التي تضمنها بتأثير من قرار إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي وعودتها إلى فرض عقوبات اقتصادية فردية، لكنها ذات تأثير دولي في منعها الشركات العالمية من التعامل مع إيران تحت طائلة شمولها بالإجراءات العقابية الأميركية.
التنقل على حافة الهاوية
لا تتردد إيران في التنقل على حافة الهاوية من أجل الوصول إلى الأهداف التي تريدها، فقد سبق أن لجأت إلى مثل هذه المخاطرة عام 2006، بعد فشل المفاوضات التي قادها آنذاك علي لاريجاني بصفته كبير المفاوضين في الملف النووي مع خافيير سولانا ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي. إذ خرج رئيس الجمهورية، حينها، محمد أحمدي نجاد في خطاب جماهيري في العاصمة طهران ليعلن أن بلاده لن تتراجع قيد أنملة عن حقوقها النووية. ما ساهم في إفشال المفاوضات التي كانت قد وصلت إلى نقاط متقدمة من التفاهم لحل الأزمة النووية. وواجه لاريجاني حينها كلاماً صريحاً عن مصير معقد بالدفع نحو إشعال المنطقة من خلال استدعاء العمل العسكري ضد إيران.
حينها، ومن خارج كل السياقات التي كانت تشهدها الساحة اللبنانية وتأكيد الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله عن صيف سياحي واعد، خرجت الأخبار في الـ11 من يوليو (تموز) عن عملية عسكرية قام بها الحزب ضد القوات الإسرائيلية وخطفه جنديين إسرائيليين. ما أدى إلى اشتعال حرب بين الحزب وإسرائيل استمرت 33 يوماً. وقد تزامن اشتعالها مع زيارة قام بها لاريجاني إلى العاصمة السورية دمشق، التي وصلها من جنيف بعد فشل مفاوضاته مع سولانا، واجتماعه مع نصرالله وقيادات الفصائل الفلسطينية المقربة من طهران.
في هذه الحرب، وعلى الرغم من نتائجها المدمرة على لبنان، إلا أن الرسالة الإيرانية إلى الإدارة الأميركية وحكومة تل أبيب وصلت بشكل واضح، ومفادها أن أي حرب قد تشن على إيران أو أي استهداف لبرنامجها النووي أو تدمير بنك الأهداف الذي وضعته واشنطن، وكان يشمل حينها حوالى 2700 هدف اقتصادي وعسكري وصناعي، سيكون الرد عليه خارج حدود إيران، وسيشمل النقاط التي تشكل حساسية أميركية.
الاستراتيجية نفسها
الاستراتيجية الإيرانية ما بين عامي 2006 و2019 لم تختلف كثيراً في إطارها العام، بل تدعي طهران أنها أصبحت أكثر اتساعاً وتأثيراً من خلال ما تتمتع به من نفوذ تعدى الساحة اللبنانية ليصل إلى عدد من البلدان العربية في المنطقة مثل اليمن والعراق وسوريا، إضافة إلى اعتمادها على ما لديها من ترسانة صاروخية باليستية من مختلف المديات البعيدة والمتوسطة والقصيرة، التي ستستخدمها للنيل من دول عربية، خصوصاً الخليجية، إضافة إلى القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة وتطوق إيران من جميع الجهات والجبهات. من هنا، جاءت التحذيرات الأميركية، التي ترافقت مع حشود عسكرية غير مسبوقة بما فيها إرسال حاملة الطائرات إبراهام لينكولن وقاذفات استراتيجية من نوع B52s إلى منطقة التوتر مع إيران في الشرق الأوسط، والجولات المكوكية التي قام بها وزير الخارجية مايك بومبيو على بعض العواصم التي تدور في الفلك الإيراني أو التي ترتبط معها بتحالفات أو علاقات متقدمة مثل العراق وموسكو لتوجيه رسالة واضحة بأن أي اعتداء على القوات أو المصالح الأميركية في المنطقة أو في الدول المؤيدة سيكون الرد عليه قاسياً ومدمراً.
ولا شك في أن إيران، وفي حال وقوع ما لا تتمناه من مواجهة عسكرية، فإنها ستعمد إلى تحريك الفصائل المسلحة التي أنشأتها في كل من العراق واليمن وسوريا ولبنان، والتي تشكل ذراعها العسكرية في المنطقة. بالتالي، فإن أي قطرة دم لجندي أميركي ستسقط جراء أي اعتداء، ستكون علامة على خروج الأمور عن السيطرة وفتح الطريق أمام عملية تدمير واسعة ستتعرض لها من قبل الأداة العسكرية الأميركية المنتشرة على امتداد دول غرب آسيا.
وعلى الرغم من ارتفاع وتيرة تبادل الرسائل بين واشنطن وطهران، التي تقتصر على التصريحات في وسائل الإعلام وعبر منصات التواصل الاجتماعي، إلا أن ما يعقد المشهد بين الطرفين هو غياب أي قناة للتواصل السري المباشر بينهما، وعدم قدرة الأطراف التي تبرعت في لعب دور قناة تواصل على تقديم أي اقتراحات مقنعة تدفع الطرفين إلى القبول بهذا الدور. على العكس مما كان سائداً بين الطرفين في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، الذي نسج خطوط تواصل على مستويات عليا مع طهران بهدف إدارة الأزمة بينهما، وصولاً إلى اللقاءات العلنية المباشرة والانتهاء بتوقيع الاتفاق النووي.
رسالة البيت الأبيض
وعلى الرغم من الافتراق بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب وفريقه حول اللجوء إلى عملية عسكرية، وعدم رغبته في اشتعال حرب جديدة في الشرق الأوسط، وأن على الجانب الإيراني أن يستوعب رسالة البيت الأبيض بعدم الحاجة إلى التصعيد المتزايد ودفع الأمور إلى حافة الانفجار، وأن أي موقف تصعيدي إيراني سيسهم في رفع وتيرة التشدد لدى الفريق الذي لا يعارض الحرب بما يعرقل جهود الرئيس للتوصل إلى نقطة وسط تدفع إيران إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
إن الإجراء الذي أقدمت عليه إيران بتخفيض التزاماتها بالاتفاق النووي في ما يتعلق بتصدير اليورانيوم المخصب الذي تنتجه بدرجة 3.57، وما يزيد على 130 كيلو من الماء الثقيل، وتلويح المرشد الأعلى بأن السلاح النووي ليس بعيداً من متناول اليد الإيرانية، وما يعنيه ذلك من إمكان أن ترفع إيران مستويات التخصيب أو تحويل ما تنتجه من يورانيوم منخفض التخصيب إلى عالي التخصيب، يدفع الأمور نحو مزيد من التصعيد، ويفتح الطريق أمام إلغاء الاتفاق النووي، وهذه المرة من قبل مجلس الأمن الدولي وفتح الباب لعودة العقوبات الدولية من جديد، وإمكان إدراج إيران تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
الاستمرار الإيراني والإصرار على تحدي الإرادة الدولية يدفعان الأمور إلى مستويات خطيرة وقد تسهم في خروج الوضع عن السيطرة ومنع التفجير العسكري الذي لا يمكن تقدير تداعياته على المستويين الإقليمي والدولي. وهذا ما تخشاه إيران، لأنها تدرك أنه في اللحظة التي تخرج فيها الأوضاع عن السيطرة، فإن الثمن الذي ستدفعه سيكون كبيراً وضخماً، وقد لا تقف تداعياته عند تدمير الأهداف التي حددتها واشنطن، بل قد يطاول استمرار النظام وبقائه. لذلك فهي تراهن على أن يلجأ الرئيس الأميركي إلى تخفيف حدة التصعيد ضدها وأن يتفهم الإشارات الإيجابية التي تصدر عن رئيس دبلوماسيتها محمد جواد ظريف، وأن يقوم ترمب بخطوات مشابهة لخطوات سلفه أوباما بفتح قنوات تواصل مع طهران على مستوى رفيع تلعب دوراً إيجابياً في فتح باب التفاوض. وهي أمال قد يكون من الصعب تحققها في ظل عدم إبداء طهران مؤشرات إيجابية حول ما تطلبه واشنطن من شروط تتعلق بالتفاوض حول نفوذها الإقليمي وبرنامجها الصاروخي ودعمها التنظيمات العسكرية في بعض دول المنطقة.