شهدت مُحافظة كركوك العراقية قلقاً كبيراً ليلة أمس (15-5-2019)، إذ قتل سبعة عناصر من الشُرطة الاتحادية، بينهم أربعة ضباط في كمين يُقال إن تنظيم داعش نصبه، بحسب مصادر أمنية. وتأتي هذه الأحداث الأمنية ضمن وتيرة شبه دائمة تمر بها مُحافظة كركوك، خصوصاً المناطق الجنوبية والغربية منها. إذ قُتل عنصر من الشرطة الاتحادية وأصيب ثلاثة عناصر آخرين الأسبوع الماضي، وبعد أقل من أسبوعين من هجوم كبير، شنه داعش على القوات الأمنية في منطقة شوان شمال مدينة كركوك، بين مُحافظتي كركوك وأربيل، ما أدى إلى مقتل وإصابة خمسة من القوات الاتحادية العراقية. تتكرر تلك الهجمات المتواترة بشكل أسبوعي تقريباً، مُنذ أكثر من عامٍ ونصف، حين أعلنت القوات الأمنية العراقية في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2017 تحرير كامل مناطق محافظة كركوك من تنظيم داعش، الذي كان يحتل قُرابة نصف مساحة تلك المحافظة.
قلق دائم
واللافت، أن الأحداث أتت بعد أقل من ثلاثة أسابيع من تصريح القوات الأمنية العراقية على أن عمليات تطهير نوعية خاضتها القوات الأمنية العراقية في مُختلف مناطق جنوب غربي مُحافظة كركوك، خصوصاً في منطقة وادي الشاي. وأوضحت الخلية الأمنية في المُحافظة آنذاك أن القوات الأمنية قتلت ستة عشر قيادياً للتنظيم، ودمرت 21 وكراً و16 نفقاً ومستودعيْن كان التنظيم أسسها في المنطقة كنقطة خلفية ينفذ منها عملياته الخاصة. وتعتبر مُحافظة كركوك، أكثر المناطق العراقية المُحررة من تنظيم داعش قلقاً، إذ لم تعد مثل هذه الأحداث الأمنية إلى محافظات الأنبار وصلاح الدين، ولا حتى محافظة نينوى (الموصل)، التي عاشت أقسى فصول التحرير من التنظيم. ووصل الأمر في محافظة كركوك إلى درجة حذر فيها نائب المحافظة أحمد مدلول الجربا رئيس الوزراء العراقي من إمكانية عودة داعش إلى كامل مناطق المُحافظة، وعودة سيناريو عام 2014، حين سيطر التنظيم بشكل مفاجئ على كامل مناطق جنوب العراق وغربه في أقل من شهرٍ واحد.
صراعات داخلية
ليس صدفة أن تجري الأحداث الأمنية في محافظة كركوك في المناطق ذات الغالبية العربية والتُركمانية، أي المناطق الجنوبية والغربية منها، حيث ثمة أسباب موضوعية لذلك. فإلى جانب صراعها المُستميت مع الطرف الكُردي، ثمة صراع حميم داخل المكون التُركماني في المُحافظة، المنقسم على نفسه طائفياً. فالقواعد المُجتمعية الترُكمانية السُنية في المحافظة تتحسس مما تُمارسه فصائل الحشد الشعبي التُركمانية الشيعية بحقها، إذ تعتبرها الحاضنة الشعبية للتنظيمات المُتطرفة، وتُحملها تبعات ما فعلته المجموعات التُركمانية بحق التُركمان الشيعة في محافظة نينوى (الموصل)، خصوصاً أحداث بلدة تلعفر، التي كانت شبه إبادة جماعية متبادلة داخل المكون التُركماني هُناك. ويحدث الأمر ذاته، ضمن المكون العربي في المُحافظة. إذ تفضل القوى السياسية العربية في المحافظة حُكم الجيش والقوى الأمنية على المُحافظة، لاستبعاد الهيمنة الكُردية، بالذات على مدينة كركوك المُختلطة، إلا أنها تعاني الأمرين من تعامل القوى الأمنية وفصائل الحشد الشعبي الطائفية في المناطق ذات الغالبية العربية السُنية، المحرومة من إعادة الإعمار والاستقرار والتنمية، التي تسمح لأكثر من نصف سُكان تلك المُحافظة من النازحين للعودة إلى مناطقهم.
يجري ذلك، في وقتٍ لا تسمح الحكومة المركزية لقوات البيشمركة الكُردية من العودة إلى محافظة كركوك والمُشاركة في إدارة الملف الأمني فيها، مثلما كانت الحال قبل عام 2014، وترفض حتى التفاوض مع القوى السياسية الكُردية في ذلك الاتجاه. وتمنع هذه الوقائع تعاوناً وثيقاً بين الأجهزة الأمنية وقوات الجيش الحاكمة للمُحافظة وبين القواعد الاجتماعية لمختلف المكونات فيها. وفي مستوى آخر، فإن هذه المظلومية والمعاناة من تصرفات الأجهزة الأمنية، يدفع عدداً من شُبان المُحافظة إلى الخضوع لدعاية التنظيمات المُتطرفة الناشطة هناك.
تبدلات السيطرة على كركوك
ومنذ عام 2003 وحتى الراهن، تغيرت قوة الحُكم الفعلية لمحافظة كركوك أكثر من أية منطقة عراقية أخرى على الإطلاق. فبسبب الصراع التاريخي التقليدي بين السُلطة المركزية والحركة القومية الكُردية، فإن التوافقات السياسية بعد عام 2003 توصلت إلى أن تُحكم هذه المُحافظة المتنازع عليها بشكل مُشترك بين القوات الأمنية العراقية المركزية وقوات البيشمركة الكُردية، إلى أن يتحدد مصير تلك المُحافظة وتابعيتها، بحسب المادة 140 من الدستور العراقي، التي حددت آليات تحديد مصائر المناطق المُتنازع عليها، وعلى رأسها مُحافظة كركوك. على عكس بقية مناطق العراق، عاشت محافظة كركوك هدوءاً أمنياً طوال عقد كامل (2003-2013)، كانت إدارة الملف الأمني مشتركة بين الطرفين، فالأجهزة الأمنية الكُردية شديدة الارتباط والحضور في القواعد الاجتماعية الكُردية في المُحافظة. مع احتلال داعش مدينة الموصل وغالبية المناطق الغربية من البِلاد، في يونيو (حزيران) 2014، طلبت الحكومة المركزية من قوات البيشمركة السيطرة على مدينة كركوك، ما منع داعش من احتلال كامل المُحافظة، واقتصر الأمر على الجنوبية والغربية منها، فيما خضعت المناطق الشرقية والشمالية منها للسيطرة الكاملة لقوات البيشمركة، بما في ذلك مدينة كركوك. وبعد تحرير المناطق المُحتلة من داعش من قِبل القوات الأمنية المركزية العراقية، فإن المحافظة صارت مُقسمة جغرافياً بين حُكم الجيش العراقي وفصائل الحشد الشعبي من طرف، وبين قوات البيشمركة الكُردية من طرف آخر.
الانسحاب
لكن بعد أحداث استفتاء استقلال إقليم كُردستان في 25 سبتمبر (أيلول) 2018، وبدعم إيراني وتُركي واضح، أجبر الجيش العراقي وفصائل الحشد الشعبي قوات البيشمركة الكُردية على الانسحاب من مناطق سيطرتها من المُحافظة، وبذلك صارت المحافظة خاضعة بالكامل للجيش العراقي وفصائل الحشد الشعبي. طوال هذه التحولات الأمنية- السياسية في محافظة كركوك، كانت المكونات الثلاثة الرئيسية في المُحافظة، الكُرد والعرب والتركمان، كانوا يخوضون حرباً باردة في ما بينهم للسيطرة على المُحافظة. وبسبب الصراع بين المكونات الأهلية والتبدلات الكثيرة التي طاولت هوية المُسيطرين السياسيين والأمنيين في المحافظة، تدهورت أحوال الاستقرار الأمني بها، حيث لم يجرِ أي تراكم أو خبرة في إدارة الملف الأمني من جانب جهاز أمني موحد. يُضاف إلى كل ذلك، الوعورة الجُغرافية الاستثنائية في المناطق الجنوبية والغربية من محافظة كركوك، غير الشبيهة بالمناطق السهلية في كامل المنطقة الوسطى والغربية من العراق.