نقد الغزالي
لقد انتقد أبو حامد محمد الغزالي (450-505 ه/ 1058-1111 م) الفكر المعتزلي في بعض المسائل، ومنها مشكلة الحرية، وحسب رأيه، إن الحرية ليست أكثر من أفعال الله، فلا يوجد إنسان مستقل بنفسه ليقوم بكل حرية بما يشاء في هذا العالم، وفي نظره أيضاً، أن العالم وجميع مخلوقاته موجودة من قِبل أفعال الله، الذي هو خلقها واخترعها وصنعها، فكل مخلوقات الله تابعة إليه، ومتعلقة بقدرته. لقد أمر الله الناس أن يكونوا صالحين وصادقين في كل ما يقولوه ويفعلوه، سواء بشكل علني أو سري، لأنه تعالى يعرف سرهم ونجواهم.
بلا ريب إن تنشئة الغزالي الدينية وتشربه بالطريقة الصوفية جعلا مجمل أفكاره وتصوراته تدور حول المحور الديني أكثر من المحور الفلسفي. فإن الله تعالى هو المدبّر للبشر وللكائنات وللكون بأسره، فلا يجري شيء إلا بقضائه وقدره وحكمته ومشيئته. فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. لا يخرج عن إرادته شيء ما، وهو المُبدئي المُعيد، والفعّال لما يُريد. فلا راد لأمره ولا معقب لقضائه، ولا مهرب لعبد عن معصيته إلا بتوفيقه ورحمته، ولا قوة له على طاعته إلا بمشيئته وإرادته. فلو اجتمعت الإنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها من دون إرادته ومشيئته لعجزوا عن ذلك.
في "إحياء علوم الدين" ينص الغزالي على أن كل موجود في الكون هو حادث بفعل الله وفائض من عدله، فالله حكيم في أفعاله، عادل في أقضيته. ولا يقاس عدله بعدل العباد، إذ العبد يُتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره، ولا يُتصور الظلم من الله تعالى. فليس في الكون مُلك لغير الله يكون تصرفه فيه ظلماً، إنما كل ما في الكون مُلك الله وحده. لذلك لا يُتصور الظلم في حق الله ما دام لا يُصادف لغيره ملكاً إذا تصرف فيه كان ظالماً.
وإن الله متفضل بالخلق والاختراع والتكليف لا عن وجوب، ومتطوَّل بالإنعام والإصلاح لا عن لزوم. وإذ كان قادراً على أن يصب على عباده أنواع العذاب ويبتليهم بضروب الآلام والأوصاب. ولو فعل ذلك لكان منه عدلا، ولم يكن منه قبيحاً ولا ظلماً، وأنه تعالى يثيب عباده المؤمنين على الطاعات بحكم الكرَم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم له، وأن حقه في الطاعات واجب على الخلق بإيجابه على ألسنة أنبيائه لا بمجرد العقل، لكنه بعث الرُسل، وأظهر صدقهم بالمعجزات الظاهرة، فبلّغوا أمره ونهيه ووعده ووعيده، فوجب على الخلق تصديقهم فيما جاءوا به.
أمَّا أفعال الله وإرادته الإلهية المطلقة على الوجود بأسره، فقد أفرز الغزالي عشرة أصول يبين فيها هذا الأمر. سنذكر منها خمسة أصول هي الأول والثاني والثالث والخامس والسادس، وذلك لعلاقتها بمسألة الحرية، التي يحاول الغزالي أن يحجمها إلى أضيق نطاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأصل الأول: إن كل حادث في العالم هو فعله وخلقه واختراعه. خلق الخلق وصنعهم وأوجد قدرتهم وحركتهم، فجميع أفعال عباده مخلوقة له، متعلقة بقدرته. أمر العباد بالتحرز في أقوالهم وأفعالهم وإسرارهم وإضمارهم، لعلمه بموارد أفعالهم.
الأصل الثاني: إن انفراد الله باختراع حركات العباد لا يخرجها عن كونها مقدورة للعباد على سبيل الاكتساب، بل الله خلق القدرة والمقدور جميعاً، وخلق الاختيار والمختار جميعاً، فإما القدرة فوصف للعبد وخلق للرب سبحانه، وليست بكسب له. وأمَّا الحركة فخلق للرب ووصف للعبد وكسب له. فعلم الله شامل لكل شيء، فلا يقع في ملكه ما لا يعلم، ولا يحدث ما لا يريد، بل كل ما يجري في العالم فإنما يحدث بعلمه وقضائه. فالأفعال جميعها مقدورة بمقدرة الله تعالى اختراعاً، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلق يعبر عنه بالاكتساب.
الأصل الثالث: إن فعل العبد وإن كان كسباً له فلا يخرج عن كونه مراداً له. فلا يجري شيء إلا بقضاء الله وقدرته، وبإرادته ومشيئته. فعنه يصدر الخير والشر، والنفع والضر، والإسلام والكفر، لا معقب لحكمه، ولا رادّ لقضائه، يضل من يشاء ويهدي من يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، يدل عليه دليلان: النقل والعقل. الأول في قول الله: "أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا" وقوله تعالى: "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها". والثاني، فإن المسلم لا يستجيز أن تجري المعاصي والجرائم على وفق إرادة العدو إبليس من دون إرادة الله.
الأصل الخامس: إنه يجوز على الله أن يكلف الخلق ما لا يطيقون، خلافاً للمعتزلة، وإلا لاستحال سؤال دفعه. وقد سأل المسلمون الله ذلك فقالوا: "ربنا لا تُحملنا ما لا طاقة لنا به"، فلولا إنه لا يجوز على الله تكليف ما لا يطاق لما سألوا أن لا يُحملهم ما لا طاقة به.
الأصل السادس: إن إيلام الله الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق أو لاحق، خلافاً للمعتزلة، لأنه متصرف في ملكه، يعذب من يشاء من غير استحقاق من العباد من دون أن يكون في تعذيبهم ظلم لهم. إذ الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهو محال على الله، فإنه سبحانه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً.
إذاً فإن مفهوم الحرية الإنسانية عند الغزالي مخالف لمفهوم المعتزلة الذي ينص على أن الإنسان حر في الفعل والترك، بينما يرى الغزالي أن المجال الحر لدى الإنسان محصور في عملية "الكسب" و"الاكتساب" ليس إلا، إذ إن أفعال الإنسان مضافة إلى الله خلقاً وإيجاداً، وإلى الإنسان كسباً، وعلى ضوئها يتم الحساب في الثواب أو العقاب.
ومن أجل إثبات أن لا فاعل إلا الله وحده، يضرب الغزالي مثلاً عن الإرادة الحرة، إذ يوضح فيه كيف أن الله هو الفاعل لكل ما يصدر عن الإنسان إبداعاً واختراعاً. يسرد الغزالي بأن إنساناً عمد إلى ورقة كانت بيضاء قبل قليل ثم اسوّدت أجزاء منها بالكتابة، فسألها: لِمَ سوّدت وجهك؟ فقالت: ما أنصفتني في هذه المقالة، فإني ما سوّدت وجهي بنفسي، لكن سل الحبر فإنه كان مجمعاً في المحبرة، التي هي مستقرة ووطنه، فسافر عن الوطن، ونزل بساحة وجهي ظلماً وعدواناً.
فسأل الحبر عن ذلك فقال: ما أنصفتني، فإني كنت في المحبرة وادعاً ساكناً على أن أبرح منها، فاعتدى عليّ القلم بطمعه الفاسد، واختطفني من وطني، وأجلاني عن بلادي، وفرق جمعي، وبددني كما ترى على ساحة بيضاء، فالسؤال عليه لا عليّ.
ثم سأل القلم عن السبب في ظلمه وعدوانه وإخراج الحبر من أوطانه. فقال: سل اليد والأصابع، فإني كنت قصباً نابتاً على شط الأنهار، متنزهاً بين خضرة الأشجار فجاءتني اليد بسكين فنحت عني قشري ومزقت عني ثيابي واقلعتني من أصلي، ثم برتني وشقَّت رأسي، ثم غمستني في سواد الحبر، وهي تستخدمني وتمشيني على قمة رأسي. فتنحَّ عني وسل من قهرني.
ثم سأل اليد عن ظلمها وعدوانها على القلم واستخدامها له. فقالت اليد: ما أنا إلا لحم وعظم ودم، وهل رأيت لحماً يظلم أو جسماً يتحرك بنفسه؟ وإنما أنا مرْكب مسخّر ركبِني فارس، يقال له القدرة والعزة، فهي التي ترددني وتجول بي في نواحي الأرض. أمَا ترى المدر والحجر والشجر لا يتعدى شيء منها مكانه ولا يتحرك بنفسه، إذْ يَرْكَبْه مثلُ هذا الفارس القوي القاهر؟ أمَا ترى أيدي الموتى تساويني في صورة اللحم والعظم والدم، ثم لا معاملة بينها وبين القلم؟ فأنا أيضاً من حيث أنا لا معاملة بيني وبين القلم. فسل القدرة عن شأني، فإني مركب أزعجني من ركبني.
ثم سأل القدرة عن شأنها في استعمالها اليد وكثرة استخدامها وترديدها. فقالت: دع عنك لومي ومعاتبتي، فكم من لائم ملوم! وكم من ملوم لا ذنب له! وكيف يخفى عليك أمري؟ وكيف ظننت إني ظلمت اليد لما ركبتُها؟ فقد كنت لها راكبة قبل التحريك ومع ذلك ما كنت أحركها، بل كنت نائمة ساكنة نوماً ظن الظانون بي إني ميتة أو معدومة، لأني ما كنت أتحرك ولا أحرك. وبقيت كذلك حتى جاءني موكل أزعجني وأرهقني إلى ما تراه مني، فكانت لي قوة على مساعدته، ولم تكن لي قوة على مخالفته، وهذا الموكل يسمى الإرادة. ولا أعرفه إلا باسمه. فأزعجني هجومه وصياله في غمرة النوم، وأرهقني إلى ما كان لي مندوحة عنه.
ثم سأل الإرادة: ما الذي جرأك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة حتى صرفتها إلى التحريك، وأرهقتها إليه لم تجد عنه مخلصاً ولا مناصاً. فقالت الإرادة لا تعجل عليّ، فلعل عذراً وأنت تلوم، فإني ما انتهضت بنفسي ولكن أُنهضت، وما انبعثت ولكنني بُعثت بحكم قاهر وأمر جازم، وقد كنت ساكنة قبل مجيئه، ولكن ورد عليّ من حضرة القلب رسول العلم على لسان العقل بأن أصدع للأمر، فإني مسكينة مسخرة تحت قهر العلم والعقل، ولا أدري بأي جرم وُقفت عليه وسُخرت له وأُلزمتُ طاعته. لكني أدري إني في دعةٍ وسكون ما لم يرد عليّ هذا الوارد القاهر، وهذا الحاكم العادل أو الظالم، فأنا ساكنة لكن مع استشعار وانتظار لحكمه، فسل العلم عن شأني ودع عني عتابك.
فأقبل على العلم والعقل والقلب مطالباً لهم ومعاتباً إياهم على استنهاض الإرادة. فقال العقل: أمَّا أنا فسراج ما اشتعلت بنفسي، ولكن أُشعلت. وقال القلب: أمَّا أنا فلوح ما انبسطت بنفسي، ولكن بُسطت. وقال العلم: أمَّا أنا فنقش نُقشت في بياض لوح القلب عندما أشرق سراج العقل. وما انحططت بنفسي، فكم كان هذا اللوح قبلي خالياً عني. فسل القلم، لأن الخط لا يكون إلا بالقلم.
فعند ذلك اضطرب السائل، ولم يقنعه جواب، وقال قد طال تعبي في هذا الطريق وكثرت منازلي، ولا يزل يحيلني من طمعت به في معرفة هذا الأمر منه على غيره. لكنني كنت أطيب نفساً بكثرة التردد لما كنت أسمع كلاماً مقبولاً في الفؤاد وعذراً ظاهراً في دفع السؤال.
وقال لليد والقلم والعلم والإرادة والقدرة وما بعدها: اقبلوا عذري، فإني كنت غريباً، حديث العهد بالدخول في هذه البلاد. ولكل داخل دهشة. فما كان إنكاري عليكم إلا عن قصور وجهل. والآن قد صح عندي عذركم، وانكشف لي أن المنفرد بالملك والعزة والجبروت هو الواحد القهار. فما أنتم إلا مسخرون تحت قهره وقدرته، مرددون في قبضته. وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، ولا تناقض في الأمر: فهو الأول إذ صدر عنه الكل على ترتيبه واحداً بعد واحد، وهو الآخر في المشاهدة، والأول في الوجود، وهو الباطن لإدراكه بالحواس الخمس، وهو الظاهر لمن يطلبه واشتعل في قلبه بالبصيرة بالباطنة النافذة في عالم الملكوت.
وإذا اعتقد المعتزلة أن الله لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وأن الأصلح للعباد هو من العدل الإلهي، فإن الغزالي في الأصلين الرابع والسابع من الأصول العشرة يرفض هذه الفكرة تماماً.
الأصل الرابع: إن الله تعالى متفضل بالخلق والاختراع، ومتطول بتكليف العباد، ولم يكن الخلق والتكليف واجباً عليه. وبهذا القول يرد الغزالي على المعتزلة التي توجب فعل ذلك على الله وفق مبدأ مصلحة العباد، فالغزالي ينص على أن الله هو الموجب والآمر والناهي، فلا يجوز أن يتعرض لإيجاب أو للزوم أو خطاب. أمَّا قول المعتزلة "يجب لمصلحة العباد" فكلام فاسد. فإذا لم يتضرر بترك مصلحة العباد لم يكن للوجوب في حقه معنى، ثم إن مصلحة العباد إنما تكون في أن يخلقهم في الجنة. أمَّا أن يخلقهم في دار البلايا، ويعرّضهم للخطايا، ثم يعاقبهم على ما قدمت أيديهم فما في ذلك غبطة عند ذوي الألباب.
الأصل السابع: إن الله يفعل بعباده ما يشاء، فلا يجب عليه رعاية الأصلح لهم، إذ لا يجب عليه سبحانه شيء، بل لا يُعقل في حقه الوجوب: فإنه لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. وفي هذا الصدد يفرض الغزالي مناظرة في الآخرة بين صبي وبين بالغ ماتا مسلمين، فإن الله يزيد في درجات البالغ، ويفضله على الصبي، لأنه تعب بالإيمان والقيام على الطاعات بعد البلوغ. فلو قال الصبي: "يا رب لِمَ رفعت منزلته عليّ؟" فيقول الله: "لأنه بلغ واجتهد في الطاعات". فيقول الصبي: "أنت أمتّني صبياً، فلو أدمت عليّ حياتي حتى أصل إلى سن البلوغ لاجتهدت في طاعتك، لكنك عدلت عن العدل، فتفضلت عليه بطول العمر دوني فلِمَ فضّلته؟". فيقول الله: "لأني علمت إنك لو بلغت لأشركت أو عصيت، فكان الأصلح لك الموت في الصبا". وهنا ينادي الكفار في دركات الجحيم قائلين: "يا رب هلا أمتّنا في الصبا، فأرحتنا من العذاب المقيم! أفما علمت أن ذلك أصلح لنا؟ فإنا رضينا بما دون منزلة الصبي المسلم". لا يبقى لله، عندهم، جوابُ قط!
في الحقيقة، اقتبس الغزالي هذه القصة من الأشعري (260- 324 ه/ 873-935 م)، لكن من دون تمحيص، فالصبي لا يمكن أن يجادل الله تعالى بهذه الطريقة. ومن الواضح أن الغزالي لم يحاول إجراء فحص دقيق لتلك الأسئلة، وإلا ما سمح للصبي بالمطالبة بمستوى البالغ، رغم أنه توفى قبل بلوغ سن المراهقة. وهل من الممكن أن يكون الكفار الذين عاشوا في فخر وطغاة ضالين، يرضون بمستوى أدنى من الصبي؟
عموماً كان المعتزلة أكثر عمقاً في بحثهم بمسألة حرية الإنسان، مما كان عليه الغزالي. المأخذ عليهم أنهم يعتبرون جميع أفعال الإنسان تكون مخلوقة بنفسه، ولهذا فقد هاجمهم الغزالي بقوة، وأكد أن الإنسان ليس أكثر من كائن مخلوق يتصرف الله به كيفما يشاء، وأن الحرية يجب أن يُنظر إليها على أنها ليست أكثر من مشورة نفسية، يمكن لأي إنسان أن يتمتع بها، طالما أنه لا يملك إرادة سلبية، بغض النظر عن التغييرات في الظروف الحياتية.