Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ديمة الشكر تبحث عن كاتبة مجهولة في دمشق القرن التاسع عشر

"أين اسمي" قصص مجزرة باب توما عام 1860 وما أخفاه التاريخ

في قلب دمشق القديمة (وزارة الآثار في سوريا)

في رواية أولى شاءتها تاريخية، تقدم الناقدة والباحثة السورية ديمة الشكر عملها الروائي الأول بعنوان "أين اسمي" (دار الآداب، 2021). وفي نحو مئتين وأربعين صفحة تختار الشكر أن تخرج من الأدراج كتاباً دون عام 1901 في رواية تدور أحداثها في زمننا الحالي. وبينما اختار روائيون كثر، أخيراً، أن يهربوا إلى الرواية التاريخية أو الرواية التي ينقل راويها نص مخطوطة أو مدونة قديمة عثر عليها، اختارت ديمة الشكر أن تهرب من مجازر سوريا اليوم إلى مجزرة المسيحيين التي وقعت يوم 9 يوليو (تموز) 1860 في باب توما في سوريا.

وفي عمل قائم على فصلين وراويتين ومجزرتين وقصتي هرب إلى لندن، إحداهما وقعت في القرن التاسع عشر، والأخرى تقع اليوم في القرن الحادي والعشرين، تجعل ديمة الشكر نصها قائماً على نظام المرآة، بمعنى أن القصة الأولى والقصة الثانية متوازيتان في الوضع الأولي والحبكة والوضع النهائي، ليكون الهرب من دمشق إلى لندن ثم العودة المحتمة إلى دمشق رحلة اكتشاف الذات والمدينة والآخر.

ويتأرجح السرد في عمل ديمة الشكر بين اللغتين العربية والإنجليزية بتقنية مدروسة، من حيث الكلمات المكتوبة بالإنجليزية ومن حيث تقنية الكتابة. فبالنسبة للروائية الشابة قمور، بطلة الجزء الأول من الرواية وراوية مجزرة باب توما، هناك من ناحية أولى هويتها ولغتها السورية العربية، وهناك من ناحية أخرى تقنيات الكتابة الإنجليزية التي يحاول السير ريتشارد فرانسيس بورتون أن يفرضها عليها ليطوع طريقة كتابتها ويهذبها. وكأن الشكر تعالج قضية بداية الرواية في العالم العربي، قضية أهرق عليها الحبر الكثير. فبينما كثر وجدوا أن الرواية منتوج غربي بحت، وجد آخرون أن لها جذوراً في التراث العربي القديم، فشاءت ديمة الشكر الجمع بين الفكرتين بطريقة مبطنة داخل نسيج السرد، لتجعل قصة قمور قصة عربية ذات أحداث وسرد وشخصيات عربية، إنما بتقنية إنجليزية متماسكة ذات أصول وقواعد. وتوافق طريقة كتابة قمور لكتابها مع رؤيا الناقد المصري جابر عصفور في قوله: "إن تولد الرواية العربية في ابتداء زمنها كان نتيجة تفاعل بين الموروث والوافد، بين السرديات التراثية والأشكال الروائية الأوروبية. وهو تفاعل كان يعكس ازدواجاً ثقافيا". (زمن القص، ص: 35) ليأتي تولد هذه الرواية تفاعلاً ومزيجاً بين مجازر دمشق وطرق الكتابة الإنجليزية المهذبة الرصينة. وقد اختارت قمور أن تكتب المجزرة بالإنجليزية ربما هرباً من قساوة الوصف وقساوة التذكر وقساوة الكتابة بالعربية.

مجزرتان ومدينة واحدة

في وصف متماسك يرتكز على الحواس كلها، وبخاصة حاسة السمع، تنقل الراوية والكاتبة قمور في فصل أول من السرد قصص مجزرة باب توما سنة 1860، فتنقل القارئ إلى مكان المجزرة وتحوله إلى ضحية هاربة من بين الضحايا الكثيرة الفارة، فتقول: "لم تعد السماء زرقاء بل رمادية. أنا على الخيل، والمدينة كلها على الخيل أيضاً. ناس فوق خيول تركض، وناس تركض وتتلاطم، والأصوات قوية: صراخ وعويل وبكاء، أحجار تتدحرج، ووجيب النار تأكل القش والتبن وتحرق الخشب والقماش". (ص: 13). ويلاحظ القارئ أن حاسة السمع بالغة الأهمية في مشاهد الوصف. فعدا عن وصف المشاهد وتدوين الشهادات، تنقل الراوية الأصوات في نوع من النقل الدقيق الذي نصه عليها سيدها ريتشارد. والسيد ريتشارد ليس سوى السير ريتشارد فرانسيس بورتون المستشرق والدبلوماسي والكاتب والمترجم الإنجليزي الذي عاش في القرن التاسع عشر واشتهر بترجمته "ألف ليلة وليلة" وكذلك بحجه السري إلى مكة والمدينة عام 1855، فاختارته ديمة الشكر أستاذ روايتها ومعلمها وسيدها ومرشدها في عملية الكتابة.

ويظهر تأثر قمور بسيدها واتباعها وصاياه وآراءه عندما تحولت القصص التي جمعتها بمشورته وإيعازه إلى فحوى كتابها المؤجل، والذي لم تجرؤ على كتابته بسهولة، بل تركته بعيداً عن قلبها وذاكرتها هرباً من قساوة القصص. وعندما اختارت قمور أن تكتبه كتبت قصص مجزرة باب توما بالإنجليزية، وكأن الكلام عن المجزرة لا يحتمل ولا يمكن أن يكتب بالعربية فتقول: "جمعت قصص الـ"لا يحتمل"، وركنتها في الصندوق الخشب، وأجلت الكتابة، أجلتها إلى أن صارت لا تحتمل، بل لا تطاق. لم تفارقني البتة رغم التأجيل المؤبد، لكن لم أجرؤ مطلقاً... أو لعلي اخترت الحجج لئلا أكتب". (ص:21).

وما إن تبدأ قمور الكتابة حتى توظف جملة واحدة بصيغتها الدائمة لتفتتح قصص الناجين من المجزرة جميعهم: "فمن ذلك أنه في التاسع من تموز تمام الثانية بعد الظهر، دخل ما يزيد على خمسين رجلاً وشاباً متسلحين بالبلطات والخناجر والسكاكين والسيوف داراً جميلة". (ص:157). جملة واحدة تفتتح قصص الناجين الذين يتحدثون عن يوم وقوع الواقعة، لتتحول هذه الجملة إلى مفتاح سردي يمنح النص وتيرة ونبرة وتماسكاً.

وفي مقابل مجزرة باب توما التي تنقل قصصها قمور، تأتي زينة القرن الحادي والعشرين، الشابة التي انتقلت إلى لندن في منحة دراسية، لتراقب مجازر دمشق اليوم وتصف رغبة أهلها بالهرب والفرار فتقول واصفة المدينة: "ثمة شرخ كبير في المجتمع وكراهية،" (ص: 207)، وكأن هذا الشرخ لم ينطو والجرح لم يندمل. وفي قسم ثان أصغر بوضوح من القسم الأول، تحاول ديمة الشكر أن تقيم علاقة مقابلة بين قمور وزينة، بين المجزرتين ومحاولتي الهرب والعودتين الحتميتين، فلا مهرب من المدينة الأم مهما سفكت دماء.

المرأة والمدينة والبحث عن الهوية

يكتشف القارئ أنه وبمرور السنوات، عفا الدهر عن اسم قمور الكاتبة السورية الشابة وبقي اسم زوجها وحده هو المكتوب بالخط العريض. وعلى الرغم من أن حنا، الزوج الثري ذا العينين الخضراوين الجميلتين، كان معارضاً لكتابة قصص المجزرة، وحده اسمه كتب بخط عريض بينما وضعت قبل اسمه بخط صغير خجول كلمة "قرين" أي زوجة. وكأن قدر النساء الكاتبات منذ القدم أن يخسرن اسمهن وجهودهن وكيانهن، وكأن محو اسمهن هو عقابهن للتجرؤ على دخول مضمار أراده الرجل لنفسه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتساؤل زينة عن اسم كاتبة قصص مجزرة باب توما هو السؤال المنعكس في نفس قمور وفي العنوان "أين اسمي"، وهو سؤال مشروع ومنطقي ويحمل آلاف الطبقات من المعاني. فأين اسمي يحمل بطريقة أو بأخرى أسئلة عدة: أين هويتي؟ أين صوتي؟ أين كلمتي؟ أين وجودي؟ أين مجهودي؟ وكأن سؤال قمور وسؤال زينة هو سؤال كل امرأة وكل كاتبة وكل أنثى لم يعترف المجتمع باسمها وبهويتها وبصوتها، فأين اسمي ليس سؤالاً اعتباطياً، هو فعلاً عتاب وحزن ومئات السنوات من الحرمان والقمع والإسكات.

"أين اسمي" رواية تاريخية واقعية حملتها الكاتبة السورية هموم المجتمع السوري، هموم المرأة العربية وهموم إنسان شرقي لا ينفك ينتقل في تاريخه من مجزرة إلى أخرى، في بحث عبثي عن اسم وهوية ومدينة مسالمة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة