لم يبالغ علي الراعي حين وصف الرواية بأنها "ديوان العرب المعاصرين"؛ لأنها تستعرض من خلال تقنياتها الجمالية آلامهم وآمالهم ووقائع تاريخهم المهمل. ولا شك أن الرواية ترتبط بالتاريخ بعلاقة وثيقة؛ لأن التاريخ يقدم المادة الأولى التي تعتمد عليها الرواية في تشكيل عالمها الذي يمزج بين الحقيقة والتخييل. وهو ما يظهر في رواية "ثورة قاو الكبرى" (دار العين) للكاتب عمرو شعراوي الذي فاز من قبل بجائزة مجمع اللغة العربية في القاهرة لأفضل رواية تاريخية عن روايته "طوكر: حكاية مئة وألف قمر". وإذا كان شكري عيَّاد وصف الروائي عموماً بأنه "نصف عالِم اجتماع"، يظل من الممكن وصفه أيضاً بأنه "باحث تاريخي". وهذا ما يفسر اعتماد عمرو شعراوي في روايته الثانية، على "الخطط التوفيقية" لعلي مبارك، و"مذكرات قرية" لعصمت سيف الدولة، و"إمبراطوريات متخيَّلة: تاريخ الثورة في صعيد مصر" لزينب أبو المجد. غير أن الجديد في هذه الرواية هو استدعاء "عجيب وغريب" لابن دانيال، وهو نص هزلي كان يستخدم في عروض خيال الظل. وبهذا يمكن القول إننا أمام ثلاثة مستويات: المستوى التاريخي المباشر الذي يحكى قصة الثورة التي قادها الشيخ أحمد الطيب عام 1865 ضد سلطة الخديوي إسماعيل في قرى "قاو الكبرى" الواقعة في البر الشرقي جنوب مديرية أسيوط. وهي ثورة اجتماعية ضد الظلم الذي يرزح تحته فلاحو الصعيد، بسبب الضرائب التي أثقلت كاهلهم. والمستوى الثاني هو التمثيل الشعبي لهذه الأحداث بغرض تثبيتها في الذاكرة على رغم هزيمتها واقعياً بوصفها حلماً لا يغيب بتحقيق العدالة المفتقدة. والمستوى الثالث هو التخييل الروائي الذي يجمع بين المستويين السابقين ويزاوج بينهما فنياً لتحقيق جماليات البناء الروائي.
استقطابات طبقية
تبدأ الثورة بزخمها وطموحها محققة انتصارها على تجريدة السلطة لكنها سرعان ما تهزم لعدم تكافؤ القوى بين الطرفين، فالسلطة دكَّت بيوت "قاو" بالمدافع فدمرتها في معركة اتضحت فيها الاستقطابات الاجتماعية الطبقية بصورة واضحة، حيث وقف الفلاحون المعدمون مع الشيخ أحمد الطيب وصنعوا منه بطلاً شعبياً، بينما وقف العُمَد والأعيان مع فاضل باشا وتعاونوا مع تجريدته في القضاء على هذه الثورة ووضع الرجال على الخازوق ونفي النساء والأطفال إلى دمياط. وكانت النتيجة مكافأتهم على هذا التعاون فأصبحت "الريانية" من نصيب عبد العال العقالي، وأطلق عليها "العقالي قبلي"، و"قاو الكبرى" لعثمان الأحدب وسميت "العتمانية"، و"النطرة" و"الشيخ جابر" لهمام بك وسميت "الهمامية".
إن تغيير أسماء الأماكن هو تغييب للوعي ومحاولة محو ذاكرة الثورة القريبة وشبيه بحالات القتل والتهجير التي مورست ضد أصحاب المكان ولا تفترق عن قتل المخايل "عجيب الزمان" على يد أتباع عثمان الأحدب. ففى يوم حزين أحاط به عدد من بلطجية "عزبة أولاد سالم"، وانهالوا على رأسه بالشوم حتى فارق الحياة. ويعلق "أبو العجب" الذي يسرد هذه النهاية المأساوية على ذلك بقوله: "ملعون هذا البلد الذي يغتال أبناءه من الأعيار والذعار. لقد كان عجيب الزمان ذا فضل عظيم". وفضل "عجيب الزمان" الذي يشير إليه "أبو العجب" هو أنه كان صوت الثورة وضميرها الحي الذي يسعى لأن تكون حاضرة في ذاكرة الأجيال لكي تحفز الهمم.
تباين الرؤى
ولأننا أمام حدث كبير فلا بد أن تتباين الرؤى حوله ونكون إزاء أكثر من سردية متصارعة بما يعني نقل الصراع من مستواه الوجودي إلى مستوى الرؤية. فعُمدة "طما" مثلاً "لم يكف عن صب اللعنات على أهالي قاو الشرق والشيخ جابر والنواورة، ولم يتوقف عن وصف الخراب الذي جلبوه على أنفسهم بعد أن ضلَّلهم الشيخ أحمد الطيب وأخذهم في سكة الخراب المستعجل"، بينما يشيد بشجاعة فاضل باشا في مواجهة تلك "الهوجة"، والثناء على العُمَد والأعيان الذين وقفوا مع دولة الخديوي في مواجهة "الرعاع" من أهالي القرى الثائرة. هذه هي السردية الرسمية التي لم تلتفت إلى أسباب ثورة تلك القرى وما كان يعاني منه الفلاحون من مظالم، ولم تلتفت إلى ما فعله فاضل باشا الذي ضرب القرى بالمدافع حتى هدم البيوت وسمح لجنوده بنهب ما يجدونه وسط الخرائب. أما السردية الأخرى المناقضة، فيرويها "أحمد مشهور"، وهو من الأعيان الذين ناصروا الشيخ الطيب. هذه السردية التي ترى حالات العوز والفقر التي حلَّت بالقرى حيث "شحت الأقوات وقلَّت الأرزاق". من أجل هذا انتشرت دعوة الشيخ بين الفلاحين الذين نظروا إليه على أنه "مِن أولياء الله".
إن ما سبق يدل على أننا أمام أسباب اجتماعية دافعة للثورة وليس ما أشيع حول "هروب الأَمَة المسلمة من سيدها عساف الحادي بعزبة الأقباط والتجائها إلى الشيخ أحمد الطيب الذي آواها عنده ورفض ردها إلى مالكها"، أو تدخين "جريس الجاوي" علناً في شهر الصيام عند المسلمين. ويمكن النظر إلى هذا بوصفه دعاية مضادة تغطي أهداف الشيخ الحقيقية من رفع الظلم وإقرار العدل. وباستعراض السرديتين نرى أننا أمام ما يسمى بمفارقة الموقف التي تزداد عمقاً مع أسطرة الشيخ حين ينادي على الجبلين فينتفض الجبل الشرقي والتل الذي يقوم عليه الدير، وتنهمر الحجارة المشتعلة على رؤوس العساكر المحاصرين من ثلاثة جوانب، ما سهَّل للفلاحين الانقضاض عليهم. وهكذا زاد إيمان الناس بالشيخ ورددوا أنه وقف فوق صخرة يخطب في المقاتلين بينما كانت رصاصات العساكر تنهمر عليه من كل اتجاه من دون أن تصيبه. ومن خلال هذه "الكرامات" يتيقن الناس من قدرتهم على إقامة دولة عادلة.
البطل الشعبي
والحقيقة أن الشيخ كان يمتلك مقومات البطل الشعبي الذي يلتف حوله الجميع على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية وطبائعهم الشخصية. ومن هؤلاء "أحمد مشهور" الذي يتعجب "عبد العال العقالي" من أمره حين يقول: "لقد حاولتُ كثيراً مع أحمد مشهور لكنه لم يستمع إليَّ وفضَّل المضي في طريق الهلاك. لا أعرف لماذا يثور شخصٌ مثله على رغم ما ينعم به من يسر وراحة". لكن ما فات "العقالي" هو نبل أهداف الشيخ وإيمان الناس بها ومنهم أيضاً- وهنا تكمن المفارقة- "حماد المشاعلي"؛ سيد مطاريد الجبل الشرقي بلا منازع الذي ضمَّه الشيخ إلى رجاله واشترط عليه التوقف عن الإغارة على القرى" و"حمَّاد" هذا هو قاتل مساعد المواسي الذي خرج لمطاردته في الجبل وأصبح لزاماً على ابنه "جسَّاس" الأخذ بثأره. وهنا يختلط الخاص بالعام، إذ يرى "جسَّاس" أن اشتراك "حمَّاد" في الثورة سوف يمكنه من الثأر. وهو ما حدث في نهاية الرواية. وفي هذا الموقف تظهر صلابة المرأة الصعيدية التي تدفع ابنها للثأر مِن قاتل أبيه. فعندما يسأل "جسَّاس" – الذي سمى نفسه "مقداماً" تضليلاً لغريمه – أمه: "أما زلتِ تخشين حماد المشاعلي؟"، ترد عليه في حزم: "نهايته ستكون على يديك لكن لا تستهن بمجرم غاشم كالمشاعلي".
تنوع الشخصيات
والحقيقة أن شخصية "جسَّاس" هى أكثر شخصيات الرواية تركيباً وتحولاً، فبعد أن يغير اسمه إلى "مقدام" ويشتغل في البناء وينضم إلى ثورة الشيخ ويتمكن من الثأر لأبيه، نفاجأ بكونه "أبا العجب"، مساعد "عجيب الزمان" ويظهر ذلك حين يقول لـ "شِبْل السباعي" الذي يقوم – مع "محمود الغريب" – بترسيم حدود القرى المنكوبة: "لا يوجد فرق بين مقدام وأبي العجب... الأسماء تتبدل أحياناً لكن الحقيقة واحدة".وعندما يسأله شبل السباعي: "هل تعني أنك أنت ومقدام شخص واحد؟"، يوضح له جسَّاس الحقيقة بقوله: "بعد أن أنقذني عجيب الزمان رويتُ له تفاصيل الغارة وما جرى للشيخ الطيب وما ارتكبه فاضل باشا من فظائع وفي الوقت نفسه علَّمني هو ألاعيب وحيل الأكادية والأعيار وأفهمني أحابيلهم وأسرار لغتهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واهتمام الرواية برسم الشخصيات واضح وليس أدل على ذلك من أن فصولها تحمل أسماء الشخصيات المقدمة من خلال الراوي الخارجي العليم مثل: حماد المشاعلي، مقدام المواسي، هلال المنجم، حسونة الموزون، شمعون المشعوذ، مبارك الفيَّال، وغيرهم. وهي شخصيات شديدة التنوع مما يعكس قدرة الكاتب على سبر أغوارها على اختلاف طبائعها. ولا تقل شخصية المرأة حضوراً في هذا السياق على رغم أدوارها الثانوية، فوالدة "مساعد المواسي" تواجه بصلابة قاتِلَه "حماد المشاعلي" الذي يقذف في حجرها بذراع ابنها التي يقطر منها الدم من دون أن تنهار أو تضعف. وقد أجاد الكاتب تصوير هذا المشهد المأساوي بقوله إنها "شمَّت رائحة الدم الجاف فرمشت عيناها المكحولتان لكنها لم تتزحزح من مكانها ولم تحول بصرها بعيداً من حماد المشاعلي. حدجته بدرية بنظرة غاضبة وهي تتابع كل خطواته وتحركاته. عرفت أن رجاله محتشدون خارج الدار، لكنها لا تأبه بهم على رغم علمها بأنهم سيقتلونها ثم يحرقون دارها بعد أن ينهبوها".
ولا شك أن هذه الصلابة في المواجهة جعلت "محمود الغريب" يقول إن "الشيء الوحيد الواضح مثل نور الشمس هو أن ثورة الفلاحين تلك لم تقض عليها غارة فاضل باشا". ويتنبأ أننا "سنرى في المستقبل ثورات عدة للفلاحين وفي كل مرة ستبطش بها غارة غاشمة. هذه الدورة الجهنمية لن تتوقف حتى يستقيم ميزان العدل"، بخاصة إذا ظلت فكرة الثورة دائمة تبشر بها حكايات "عجيب الزمان" وتجذب الناس بسحرها وخيالها، وهذا ما فعلته رواية "ثورة قاو الكبرى".