بعد انقلاب البشير - الترابي عام 1989 آوى النظام السوداني في بدايات تسعينيات القرن الماضي أسامة بن لادن، ولم يكن ذلك النشاط الوحيد في تلك الفترة، فقد سبق ذلك تعاون خفي بين تنظيم "الجبهة الإسلامية" وعدد من التنظيمات الإسلامية في المنطقة.
وعندما سقط النظام السابق توقع كثيرون أنه سيعود إلى نشاطه بأشكال عدة، منها العمل على زعزعة الأمن والاستقرار لإثبات فشل الحكومة الانتقالية، ولتحقيق هذا الهدف مارس أفراد التنظيم من النظام السابق نشاطاً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وبعض القنوات في دول حليفة له، وهي الدول التي أشار إليها عضو مجلس السيادة، محمد الفكي سليمان، بأنها تدير منصات تستغل السودان لتصفية حسابات إقليمية، أولها سيكون مع الحكومة الانتقالية في السودان وثانيها مع مصر، مما يشير إلى دخول الإسلاميين في صراع إقليمي لإعادة الاعتبار واستعادة المواقع.
خطط بعيدة المدى
تثير علاقة الإسلاميين من أعضاء النظام السابق مع بعض الدول تساؤلات عدة بشأن آليات ما قد تؤول إليه هذه العلاقة تبعاً للتغيرات الإقليمية والدولية، ومطاردة هذه الجماعة وتثبيط خططها.
أما طبيعة واتجاهات تلك العلاقة والغرض منها، فهي لم تكن خفية من قبل، كما أنها تواصل في نفس مسار عراب الفكرة حسن الترابي بإقامة دولة إسلامية يرى أنها ضرورة واقعية، لا تعرف الحدود الجغرافية وتعتمد بشكل أساسي على حركة المجتمع في هذه الدول مع إطار للسلطة السياسية داخل دولة إسلامية شاملة بحسب مفهوم "الأمة الإسلامية".
ومن عمل التنظيم الإسلامي وسط طلاب المدارس والجامعات والاستقطاب المجتمعي، استطاع أن يكون قاعدة أسهمت في بقائه في السلطة بعد تنفيذ انقلاب 30 يونيو (حزيران) 1989، إضافة إلى القبضة القوية والتخلص من المناوئين. وكانت للتنظيم فرصة سابقة مواتية بعد ثورة أبريل (نيسان) 1986 على حكم جعفر النميري العسكري، إذ كاد يحصد عقوداً من التأثير في المجتمع واقترب من الفوز بالانتخابات في ذلك العام.
كان التأثير أيديولوجياً وغذَّاه التنظيم بفكرة الجهاد الذي بدأ على الآخر المختلف دينياً وهم مسيحيو جنوب السودان، وتوهم أن الحركة الشعبية لتحرير السودان ستقيم دولة مسيحية شيوعية تسيطر على البلاد كلها من جنوبها إلى شمالها.
واستمرت حرب الجنوب وظهرت كحرب دينية بعد قيام حكومة الإنقاذ، وبعد توقيع اتفاقية نيفاشا التفت النظام إلى الأحزاب السياسية التي كانت معارضة في الخارج، ليمارس ضدها إقصاءً داخلياً، واستثنى من ذلك الأحزاب التي دخلت معه في حكومة الوفاق.
بصعود الإسلام السياسي إلى سُدة السلطة، واصل في فكرته التي تلتقي بفكرة "حزب التنمية والعدالة" في تركيا، الذي يؤمن بضرورة تعزيز دوره الإقليمي في بقعة جغرافية تمتد من آسيا الوسطى حتى شمال وغربي أفريقيا. وظلت هذه العلاقة بين التنظيمات في السودان ومصر وتركيا وتونس جزءاً من سياسة الانفتاح على الإقليم التي انتهجتها وتستبطن قدراً من الحسابات المشتركة والخطط البعيدة المدى.
صراع داخلي
في المقابل، لم يبدأ صراع الإسلاميين في السودان مع سقوط الإنقاذ، ففي سنوات عنفوانه وسطوته انقسم التنظيم على نفسه، ولم يتوحدوا مرةً أخرى إلا بعد اندلاع الثورة.
والآن لا يخشى أعضاء النظام السابق من خطر التصعيد الإقليمي أو الدولي، فمن قبل نجحوا في لفت الانتباه لوجودهم واستغلوا انهيار المؤسسات السياسية المصاحبة للانتفاضة العربية، وكان ذلك تصعيداً لصراع كان يُدار لفترة طويلة في الخفاء.
الآن لا يعلن نشطاء الإسلاميين عن نشاطهم في منصات التواصل الاجتماعي، وإنما يتخفون خلف أسماء وحسابات مستعارة، وتدير هذه الحسابات من الداخل والخارج جهات منظمة، وهو احترافٌ اكتسبته الجماعة الإسلامية من عملها السري واكتسابها سطوة من عملها في السلطة وسيطرتها على جهاز الاستخبارات واستراتيجيات جمع المعلومات ونشرها.
التسليم بعدم اختفاء الإسلاميين وتوجيه أصابع الاتهام إليهم بمحاولة اغتيال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وبعد العمليات التخريبية يثبت تأثيرهم، وهو وإن كان محدوداً فتأثيرهم في الفضاء الإلكتروني أكبر.
ويحاول الإسلاميون من خلال هذا النشاط الهجوم على الحكومة الانتقالية بصورة مباشرة وغير مباشرة، عن طريق بث معلومات تضرب مجلس السيادة والمجلس العسكري بعضهما ببعض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما النشاط الأكبر فهو في التركيز على أن النشاط يقوم به أعضاء "حزب المؤتمر الوطني" المحلول، بينما تنشط أحزاب إسلامية أخرى هي "حزب المؤتمر الشعبي"، و"الإصلاح الآن" و"حركة تضامن"، وهؤلاء عارضوا النظام السابق بعد المفاصلة الشهيرة عام 1999 التي استبعدت الترابي، وتأتي انتقاداتها الحكومة الانتقالية من بوابة النظام السابق في صورة هادئة، طارحةً نفسها بديلاً له ومنافسةً للحكومة الحالية.
صراع خارجي
من جهة ثانية، يركز الإسلاميون على تصفية الحسابات مع حكومات خارجية أيضاً، ظهر هذا في الحشد الإعلامي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات فضائية محسوبة عليهم اتخذت من تركيا مستقراً لها.
ويبدو انعكاس تطورات الصراع في سوريا وليبيا واليمن على وجود الإسلاميين في هذه الدول وفي دول الإقليم عموماً واضحاً، فاتخذ هؤلاء مهاجر مختلفة التحق بهم الإسلاميون السودانيون بعد أن عملوا على تصفية ممتلكاتهم وأموالهم قبل أن تشتد ملاحقات لجنة إزالة تمكين النظام السابق عليهم.
هذه الظروف أثرت في استقرار التيارات الإسلامية من دول أخرى في تركيا، فأنذرت بعض القنوات الفضائية بضرورة إيقاف هجومها على حكومات بلادها. قد يكون هذا حافزاً إضافياً لتغيير موازين الصراع والدفع باتجاه مناطق بديلة، مستفيداً من رغبة إسلاميي السودان في تحجيم دور الحكومة الحالية وإضعاف علاقاتها الإقليمية، خصوصاً مع الدول التي أبدت تقارباً ملموساً معها.
محدّدات الصراع
تستجيب علاقة التيارات الإسلامية بعضها ببعض وتكاتفها من أجل تصفية حساباتها على مسرح السودان للعديد من المحددات، ومنها أولاً محدّد جيوسياسي يتمثل في الحدود المرنة بين السودان ومصر، والروابط العقدية والتاريخية بين التيارات الإسلامية في هذين البلدين، إضافة إلى تركيا وتونس، مما يعمل على تلاشي الحدود السياسية والجغرافية لصالح الاندماج الأيديولوجي.
ثانياً، محدد السياسات الإقليمية في المنطقة والديناميكيات الخاصة بالحرب في سوريا وليبيا، إذ تحولت أغلب المناطق إلى ساحة للوجود العسكري التركي بذريعة الحماية، وهو وجود لن يكون مؤقتاً لهذا الغرض فحسب، وإنما بدواعٍ أخرى على رأسها النفط الليبي والوجود الاستراتيجي في سوريا، سيضمن لها نفوذاً مستقبلاً. ولا يلقى دور تركيا الإقليمي استحسان دول الإقليم، ومع انتقاداته لكن نسبة للوزن الإقليمي والدولي لأنقرة، فإن أغلب الدول تتعامل مع شقها الذي يغلب السياسة الواقعية على مناوراتها الأيديولوجية مع تيارات الإسلاميين.
لا يُحتسب تخفيف هجرة الإسلاميين إلى تركيا تراجعاً من جانب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بقدر ما يُعد الأمر انحناءً أمام العاصفة، أو ورقة يمررها أردوغان أمام السخط الدولي والإقليمي على تيارات الإعلام السياسي، التي قفزت على ظهر الانتفاضات العربية عام 2011 وحاولت تعويض دولتها الشاملة. وذلك لإدارة ملفات مهمة، فهناك قضية الأكراد والأرمن، وتنافسها مع روسيا وإيران، ودورها المرتقب في أفغانستان، إضافة إلى ملف الشرق الأوسط الشائك.
ثالثاً، انفتاح السودان وابتعاد السياسة الخارجية عن الحياد، إذ كان النظام السابق يمارس رؤية سياسية يمينية متطرفة، بينما تُنسب سياسات الحكومة الانتقالية لليسار، فإن ذلك من شأنه أن يغذي نزعة التغيير لدى الإسلاميين، ويعطيهم مبرراً لزيادة التحدي في ظل المخاطر الأمنية والاقتصادية الحالية والمُحتملة. وربما كانت هذه البداية فيما استعرضه عضو مجلس السيادة بأن السودان "يتعرض لحملات تشويه وتضليل، ونشر إشاعات منظمة، وحملات لإثارة الكراهية على منصات إعلامية على الإنترنت، دفعت (فيسبوك) إلى إزالة 53 حساباً، و51 صفحة، وثلاث مجموعات، و18 حساباً على (إنستغرام)".
إن التغييرات المحتملة في استراتيجية الإسلاميين باتخاذ السودان منصة لتصفية الحسابات تعدُّ عاملاً مشجعاً لمواصلة دورهم من أجل حراك أكبر، قد لا يقف عند السودان وحده، وإنما يشمل دولاً أخرى أغلبها يمثل بيئة خصبة لإدارة الصراع نسبة لعدم الاستقرار.