لئن رحل الشاعر العربي الشهير امرؤ القيس منذ قرون وقرون، فإن تأثيره على قومه لم يزل حياً، على الرغم من مزاحمته بنجوم وثقافات جديدة في القرن الواحد والعشرين، مما استدعى بعثه بنمط مختلف نقل مضاربه من اليمامة في نجد إلى ربوع "الجمهورية الخامسة" وسط عوالمه التي أحب وإن اختلفت الأسماء والجغرافيا.
وفي باريس، حيث "أخوة الخمر لا يعدلها شيء"، كما يزعم "الملك الضليل" على لسان المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد، يطوي الكاتب العصور، ليجمع بين فتى حجر وأبناء عمومته من تونس والمغرب والجزائر والقاهرة، على جادات الشوارع الباريسية، في سياق حوار احتفالي، أخذ طابع المفارقات بين الصور القابعة في أذهان المتلقي العربي عن امرئ القيس وتلك المعاكسة لها بين متاجر وحانات وفنادق جمهورية ديغول.
وكما هو المشهور عن حياة الشاعر الجاهلي، قسم برشيد تناوله للشخصية الأثيرة إلى محطتين رئيستين، هما حياة اللهو والمعشوقات، ثم صدمة فقدان ملك والده قبل أن يحاول استعادته بكل الوسائل، متوجهاً إلى حيث أنقرة اليوم في تركيا، مستنجداً بزعيمها لاستعادة مجد آبائه، غير أن المنية عاجلته قبل أن يحقق مراده، فأبى إلا أن يخلد غضبته في أبياته التي سجل فيها بكاء صاحبه "لما رأى الدرب دونه، وأيقن أنا لاحقان بقيصرا"، فيجيبه امرؤ القيس الجسور بقولته التي أصبحت مثلاً "نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا".
إدمان الكتب الصفراء
لكن تفاصيل الحوار وسط المسرحية، هي التي أضفت على العمل جانباً من الكوميديا اللافتة في مثل مخاطبة فتى حُجر باريس وهو في حالة سكر قائلاً "حرت كيف أسميك وأناديك محظيتي أو مولاتي؟ إني أفكر في أن أعود إليك يوماً، أعود في جيش كبير وأدخل أرضك هذه فاتحاً غازياً منتصراً".
وبعد أن يضحك ساخراً يضيف "مسكين أنت أيها الشيخ، آفة أبي يا مولاتي أنه قارئ مدمن للكتب الصفراء حدثته عن أشياء وأشياء فصدقها... خبريني عنك يا مولاتي هل أنت عرس أبدي، هل أنت مأتم وجنازة، هل أنت غربة ومنفى؟ مهما ادعيت أنني أعرفك فإنني في الواقع لا أعرفك، لا أعرفك"!
بطل المسرحية لا يلبث أن يلتقي بعمال عرب قادمين من بلدان المغرب العربي يكنسون شوارع محظيته في آخر الليل، فيدعوهم إلى ترك الأعمال المهينة التي يمارسونها من أجل دراهم معدودة، ويدعوهم إلى إلقاء ما بأيديهم جانباً في مقابل أن يعطيهم ما يريدون من المال "فأموال أبي يا ابن عمي مودعة في كل بنوك العالم، تعالوا معي، وشاركوني طعامي وخمرتي، فأخوة الخمر ليس كمثلها شيء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي اتساق مع مقولة اليساريين العرب التي يعنون بها عرب الخليج دون غيرهم "نفط العرب للعرب"، يعرض الأمير الآتي من التاريخ على أبناء عمومته مشاركتهم أمواله، فيتساءلون لماذا؟ ويجيب "نصيبكم مما أعطت أرض العرب، ألستم عرباً مثلي"؟ وحين ردوا بنعم، قال "إذن لكم نصيب في خيرات هذه الأرض لأنها أرضكم أنتم كذلك، خذوا"، أما إذ لم يوافقوا على العرض بحجة أنهم لا يريدون مالاً لم يتعبوا في تحصيله، تهكم امرؤ القيس ضاحكاً من قولهم "وهل تعبت فيه أنا أو أبي؟ خذوا قلت لكم".
"أسارة مهلاً بعض هذا التدلل"
وتثير النقطة الجدلية سجالاً مستمراً بين أوساط عربية عدة، إلا أن المسرحي المغربي أمعن في إشباعها أكثر عندما جعل العمال يقنعون امرأ القيس في نهاية المطاف بأن أمواله غير نزيهة فيشعل فيها النار، قبل أن تنتقل المسرحية إلى عالم المعشوقات الباريسي، الذي استبدل فيه الملك الكندي ابنة عمه فاطمة التي أطال الحوار معها في معلقته "قفا نبك"، بنساء أخرى من بلاد الإفرنجة مثل "سارة"، التي جعل يقول لها "أسارة مهلاً بعض هذا التدلل"، وهو المقطع الذي تغنى به لمعشوقته "فاطم" الأولى قبل أن يزور فرنسا.
بينما هو غارق في أجواء باريس وسهراته مع "بنات حاييم"، إذا بصديق امرئ القيس ينقل إليه خبر مقتل أبيه، بعد أن استولى أعداؤه على الإذاعة "وأذاعوا منها البلاغ الأول، ثم راحوا يطاردون أفراد أسرتك، لقد نصبوا المشانق في الساحات، وقتلوا كل من ينتمي لكم بسبب، لقد قتل الكل وبقيت وحدك، ضاعت منك السلطة وضاع منك المال، فقدت كل شيء".
لم يختلف رد فعل الشاعر المعروف في المسرحية كثيراً عن قصة جندح بن حجر الكندي الشهير بلقب "امرئ القيس" القديمة التي يعرف الناس، وإن اكتست الأحداث بزي عصري أكثر دراماتيكية، فبعد الجزع من فقد والده في المسرحية، شرع يبحث عن الطريقة المثلى للأخذ بالثأر، على الرغم من أنه رأى الأب في المنام، ودعاه لتقبل الأمر باعتباره قدراً مكتوباً وأن أحداً لم يقتله سوى أوان أجله.
وفي مغامرة البحث عن القاتل، يسير الكندي مع صديقه عامراً، يركب المخاطر من دون الإفصاح عن وجهته، فما هي إلا لحظات حتى سمع دوي إطلاق النار الذي كان امرؤ القيس ضحيته، قبل أن يُسمع سريعاً صوت بائع الجرائد من بعيد يردد "أمير عربي يغتاله مجهولون".
مسرحية "زرقاء اليمامة"
وعكس المشهد الاحتفالي الساخر الذي بدأت به المسرحية، تسدل ستارها على وقع فاجعة مقتل حجر وابنه جندح، لولا أن الكاتب حاول إضفاء جانب من الأمل على الرغم من ذلك في النهاية، إذ وظف رفيق امرئ القيس في إضافة معنى أعمق للخاتمة، عند هز عامر سيف الفقيد قائلاً "هذا سيفك وسيف أبيك من قبلك رحلت أنت وبقي حياً من بعدك، لقد أوصيتني أن أعطيه لمن يشهره في وجه الظلم وسأفعل... ومن باريس هذه سوف تشرق الشمس غداً. تأكد أن باريس لن تخدعنا بعد اليوم فقد عرفناها وعرفتنا".
ومهما اختلف النقاد حول الأعمال التي تتناول الرموز الثقافية والتراثية العربية، فإن أكثرهم ينظرون إلى مجرد إعطائها لمسة من التحديث والإحياء، باعتباره فعلاً مفيداً، وسط زحمة أعمال تستهدف ذهنية المتلقي العربي ولا تمت إلى تاريخه بصلة.
وفي هذا السياق كان لافتاً، إعلان وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن فرحان آل سعود إطلاق "هيئة المسرح والفنون الأدائية" في بلاده، قال إنه يأمل أن تعيد لأبي الفنون في المملكة حيويته "بما يعكس قصصنا الخالدة الغنية بالثقافة والفنون".
وتخيل أن يكون بين تلك العروض "زرقاء اليمامة، وغالية البقمية (سعودية قاومت الأتراك غرب البلاد)، وراكان بن حثلين والكثير من أبطال بلادنا على عتبة المسرح، وتجسد قصصهم على خشبات المسارح حول العالم، وفق أعلى المعايير الفنية والثقافية، وما ذلك ببعيد على همة السعوديين وطموحهم".