في ظل ما يجري في الجزائر من صراعات سياسية وثقافية وإثنية، يشغلني سؤال إشكالي مرتبط بمستقبل اللغات في الجزائر، من حيث التموقع الثقافي، السلطة السياسية، السلطة المعرفية، الوجود الإعلامي، الحضور التربوي وقبل هذا وذاك، بماذا سيتواصل الجزائريون في ما بينهم في ظل الاحتقان الجهوي، وتصاعد الأصوات العرقية وتفشي ظاهرة ثقافة الكراهية؟
لا أحد ينكر أن طريقة التعاطي الأمني مع مسائل مرتبطة بسؤال الهوية أو سؤال الثقافة أو اللغات وتغييب الحوار العارف الهادئ الديمقراطي المسؤول، قد كرّسا واقعاً ينحو أكثر فأكثر نحو الجهوية. وفي ظل ذلك، تميزت منطقة القبائل أكثر فأكثر عن بقية الجهات والمناطق الأخرى من البلد. وقد جاءت الانتخابات التشريعية التي جرت في 12 يونيو (حزيران) لتزيد هذا التباعد الجهوي. وهذا ما أكدته المقاطعة الشعبية والحزبية، فللمرة الأولى يقاطع الحزبان العريقان في المنطقة، وهما حزب جبهة القوى الاشتراكية (FFS) وحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (RCD). وهو واقع يبدو لي خطيراً في المنظور المستقبلي للبلد.
وأمام هذه القطيعة الشعبية والحزبية، وهذا الاختيار الأمني كحل لمواجهة هذا الواقع المتأزم، تشنّج بعض الخطابات الفردية والجماعية المحملة بأبعاد سياسية وجهوية ولغوية وإثنية. وفي ظل هذا المناخ، عادت منطقة القبائل بشكل خاص إلى مقابر الملوك التاريخيين البربر لتستخرجهم وتبعثهم في الحياة اليومية والحوارات الإعلامية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. عادت إلى التاريخ العريق والحديث لتنحت للملوك والقادة الأمازيغ تماثيل نصبتها في الساحات العمومية في المدن والقرى الكائنة بمنطقة القبائل: تمثال شيشناق وماسينيسا ويوغرطة والكاهنة ويوبا الثاني وغيرهم، إلى جانب تماثيل لقادة الثورة وزعمائها من الشهداء والمجاهدين ذوي الأصول القبائلية. وبمجرد نصب هذه التماثيل، تعالت أصوات من جهات أخرى مستنكرة أو باحثة هي الأخرى عن قادتها في المقابر وكتب التاريخ الذين يحيلون على مرجعيات العروبة أو الفتح الإسلامي. هذا الواقع خلق وبشكل واضح انقساماً في الذاكرة وفي المرجعيات وفي المخيال المشترك للجزائريين، وعلينا أن نعترف وبكل جرأة، وقبل فوات الأوان، بأن هذا الواقع المكرس في اليومي قد حفر بعض الخنادق ورفع بعض الأسوار الرمزية بين منطقة القبائل وبقية المناطق في البلاد.
من دون شك، هذا الواقع السياسي ليس جديداً، ولكنه اتخذ منذ الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فبراير (شباط) 2019 بعداً آخر، وبالأساس منذ بداية منع رفع الراية الأمازيغية في التظاهرات وتعرّض بعض حامليها إلى عقوبة السجن. ومن دون شك، فمنطقة القبائل منطقة معروفة بالعصيان وبالتمرد على النظام المركزي منذ العام الأول من الاستقلال. وتأكد ذلك بالربيع الأمازيغي في أبريل (نيسان) 1980 الذي تمثل في تظاهرات شعبية مطالبة باسترجاع المكانة الطبيعية والتاريخية للثقافة واللغة الأمازيغيتين المهمشتين والمُحارَبَتَيْن منذ الاستقلال من قبل الأنظمة السياسية المركزية المتلاحقة.
اليوم، وأمام ما يجري منذ عامين تقريباً على المستوى السياسي والثقافي، أعتقد بأن الجزائر مقبلة على مرحلة غير مسبوقة على المستوى اللغوي. وأمام الضغط السياسي والأمني، فإننا مقبلون على خريطة لغوية جديدة، علينا كنخب ثقافية وجامعية وإبداعية ألّا نغمض العين أمامها، فإغماض العين بوضع راحة الكف عليها، أو إدارة النظر في الاتجاه الآخر، أو الصمت، كل هذا لا يحل الأزمة، بل علينا أن نفكر بجدّية وبجرأة فكرية في ما يجري أمامنا في الواقع الراهن.
على المستوى الدستوري والقانوني، الجزائر بلد بلغتين وطنيتين ورسميتين، هما العربية والأمازيغية، وهما على قدم المساواة على الأقل على المستوى النظري والقانوني، ودستورياً أيضاً لا يحق المسّ باللغة الأمازيغية في أي تعديل دستوري مقبل، لأنها أُدرجت ضمن المواد الصامتة، أي تلك التي لا يحق لأي مشرع جديد المسّ بها. لذا، فالمطالبون بتثمير وتعليم وتعميم وحماية هذه اللغة ينطلقون من موقع دستوري أولاً، وهذا حق طبيعي، وإخراج الزعماء والقادة الأمازيغ من المقابر ومن ذاكرة النسيان ونحت تماثيل لهم ونصبها في الأماكن العمومية، أمور تستند إلى دستورية وشرعية تكريس هذه الهوية عن طريق رموز يعيدون إليها الاعتبار والافتخار. وهذا حق طبيعي أيضاً، فالأمة لا تعيش من دون رموز تؤسس لها. وقد أحدث هذا الواقع اللغوي الثنائي المكرس دستورياً رفضاً مستتراً أو مكشوفاً لدى طبقة سياسية عروبية أو إسلامية سياسية. وظهر ذلك من خلال تصريحات بعض قادة أحزاب وجمعيات ضد هذا الحضور القبائلي الأمازيغي الذي تعرفه الجزائر منذ أن أصبحت الأمازيغية لغة وطنية في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، الذي جاء الحكم وهو "يصرخ" بأنه لن يسمح بدسترة اللغة الأمازيغية لغة وطنية ما دام في السلطة، لكنه وأمام طموح البقاء وأمام البحث عن شراء صمت منطقة القبائل، وأمام النضال السياسي والثقافي القبائلي المستمر والعنيد، تنازل عن "صراخه" وقبل بوطنية اللغة الأمازيغية ورسميتها، لا حباً فيها ولكن حباً في البقاء على الكرسي وخضوعاً للمقاومة الثقافية القبائلية العميقة.
اليوم، ومع هذا التشنج السياسي المرافق للتشنج الجهوي، يتعسكر كل طرف في لغته، ويدافع عنها. فالعروبيون يدافعون عن العربية تارة من موقع الانتماء الإسلامي العقائدي، معتقدين أن لا إسلام من دون اللغة العربية، وأن كل من يدافع عن اللغة الأمازيغية هو معادٍ للإسلام. وهناك فصيل آخر يعتقد بأنه ينتمي إلى القبائل العربية من الناحية السلالية، تلك التي هاجرت إلى شمال أفريقيا. وقد ظهر فصيل عنصري متطرف حمل شعار "صفر قبائلي"، أي ضرورة القضاء العرقي على القبائل نهائياً، وقد تم تداول شريط فيديو يظهر فيه بعض هؤلاء الدعاة في معسكرات شبه تدريبية تشبه إلى حد ما معسكرات النازية تطالب بمسح الوجود القبائلي الأمازيغي. وأمام هذا التخندق العروبي، تخندق تيار قبائلي لمواجهة هذه الممارسات وظهر أيضاً بخطابات حادة سياسياً وعرقياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذاً، في ظل هذا الواقع المأزوم والمتأزم سياسياً وجهوياً، يسعى كل طرف إلى تكريس وجوده من خلال تكريس لغته وثقافته ورموزه التاريخية العريقة أو المعاصرة. وقد زادت وسائل التواصل الاجتماعي الوضع تأزماً وزادت من حدة الانقسام.
في ضوء هذا الواقع الجديد، ماذا سيحدث في الأعوام العشرة المقبلة على المستوى اللغوي في الجزائر؟
سيواصل كل طرف الشد على واحد من طرفي الحبل، ولن يحدث هناك تنازل، بخاصة إذا استمر النظام في مسعاه الأمني كحل للأزمة، في الوقت الذي يحتاج الوضع إلى مقاربة أخرى، وهي مقاربة الحوار من دون إقصاء، والاستثمار في النخب الوسيطية العاقلة، والاستثمار في الخطاب السياسي التربوي والثقافي، والاستماع إلى الرؤى المختلفة ومحاولة البحث عن المشترك والابتعاد عن التركيز على المختلف مع احترامه والانتباه إليه وإعطائه أهمية، كل ذلك للوصول إلى عزل الأصوات المتطرفة المرضية والمريضة من دون قمع ولكن بالعمل السياسي وبالحرية وإعادة الثقة.
وإذا ما استمر التشنج بين التيار العروبي والقبائلي، واعتصم كل طرف بمواقعه، والتزم كل طرف موقعه وقناعاته الثقافية واللغوية، وأغلق كل واحد الباب على اللغة الأخرى، ستنتج عن هذا التباعد والتنافر ظاهرة تكريس لغة ثالثة ولن تكون سوى اللغة الفرنسية، التي ستستفيد من هذا الصراع، إذ سيضطر الطرفان إلى استعمالها كلغة حوار وخطاب حيادي بين الجميع. بطبيعة الحال، لا يظهر هذا الأمر على المستوى الشعبي البسيط، الذي سيكون التجاؤه إلى اللغة الدارجة حلاً، لكن النخب المسيِّرة للمؤسسات الاقتصادية والتعليمية والبحثية والإدارية والمصرفية والسياسية والقانونية ستجد نفسها مضطرة إلى الاستئناس باللغة الفرنسية للمحاورة الهادئة ومن دون تشنج أو حساسية في الخطاب. وهو في رأينا ما سيكرّس اللغة الفرنسية وستعود بقوة في جيل الحكامة المقبل. ويتأكد هذا الحضور اللغوي كذلك من خلال المدارس الحرة أو الخاصة التي انتشرت بشكل كبير في جميع المدن الجزائرية، والتي تولي اللغة الفرنسية أهمية كبيرة في برامجها، كما تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً في تكريس هذه اللغة، إضافة إلى الإحباط الذي تعيشه فئة الشباب التي تسعى بكل الوسائل إلى مغادرة البلد بحثاً عن فضاء يسمح بفرصة عمل وتعليم يوصل إلى ضمان المستقبل.