منذ سنوات، قررت شركة "وول مارت" المعروفة، التي تملك أكثر من 4700 محل و1.6 مليون موظف في الولايات المتحدة، إضافة إلى نحو 700 ألف موظف خارجها، أن تكون أكثر اخضراراً، فاتخذت قراراً بهدف تعزيز صداقتها للبيئة بتوظيف خبير متخصص في منصب نائب رئيس لمساعدة "وول مارت" في الوصول إلى الهدف.
وقتها ضجت وسائل الإعلام بالخبر، وبدأ المحللون يتحدثون عن آثار ذلك في أسواق الطاقة، بسبب الحجم الكبير للشركة، واستهلاكها الكبير للطاقة سواء في الإضاءة والتكييف داخل المحال أو في عمليات النقل، إذ إن الشركة تملك أكثر من ستة آلاف شاحنة، وتوظف أكثر من ثمانية آلاف سائق، إضافة إلى شاحنات الموردين أو الشاحنات المؤجرة.
درس الخبير، كما هو معروف، الوضع على الأرض أولاً، ثم أجرى عملية تقييم لما هو موجود، وما يجب أن يكون. فجاءت النتائج مذهلة، وأنهت وظيفة هذا الخبير مع "وول مارت": أوضحت النتائج أن شركة "وول مارت" خضراء منذ زمن بعيد، بسبب وجود فتحات زجاجية في سقف المحال تسمح بمرور الضوء خلال النهار، مما يخفف من استخدام الكهرباء في الإضاءة.
الآن خذ هذه القصة وفكر كيف ستطبق الشركات والحكومات الفكرة نفسها بطرق مختلفة في مجالات مختلفة: شيء موجود سلفاً سيُعاد تصنيفه على أنه ضمن السياسات للوصول إلى الحياد الكربوني. ولنتذكر أن الحديث هنا عن الشركات والحكومات التي تتبنى الاقتصاد الأخضر! فجأة ستكتشف الشركات كثيراً من التصرفات "الخضراء" التي تقوم بها منذ سنوات وعقود.
ولكن لا داعي لتخيل هذه الأمور، لأنها تحصل أمام أعيننا:
1- الدول الأوروبية "الخضراء" تصدّر المنتجات النفطية الممنوع استخدامها داخل أراضيها إلى أفريقيا، حيث القوانين القديمة التي لا تمنع استخدام هذه المواد الضارة بالصحة والبيئة. هذا ينافي فكرتهم أن موضوع الاحتباس الحراري والتغير المناخي عالمي، ويجب أن يتشارك الجميع في حل هذه المشاكل. وهذا يدل على أن جني الأموال ما زال سيد الموقف.
2- بريطانيا تستثني مشروعاً نفطياً ضخماً من المراجعة البيئية لتسهيل عملية إكمال المشروع وزيادة إنتاج النفط. الحكومة البريطانية تعلم تماماً أن انخفاض إنتاجها من النفط يعني زيادة الواردات النفطية من الدول الأخرى، ومن ثم توسع الفجوة في ميزان المدفوعات، التي تؤثر بدورها في قيمة الجنيه الاسترليني. كما تعلم أن شركاتها تحقق أرباحاً من هذه الاستثمارات وتوظف عدداً من الناس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
3- النرويج تتجاهل معارضة البيئيين وتستمر في عمليات التنقيب عن النفط في بحر الشمال والدائرة القطبية الشمالية، بحجة أن العمليات تتم وفقاً لقوانين بيئية صارمة. هناك ثروة نفطية ضخمة في المنطقة ومن الغباء إبقاؤها تحت الأرض، في الوقت الذي أصبحت فيه النرويج من أكثر بلدان العالم رفاهية بسبب النفط. المثير في الأمر أن الاقتصاد الأخضر فيها ما كان يمكن له أن يكون من دون تمويله بأموال النفط. والإعانات الكبيرة التي تقدمها الحكومة للسيارات الكهربائية ما كان لها أن تتم لولاها أيضاً. لهذا تدرك النرويج أن استمرار الرفاهية واستمرار الاقتصاد الأخضر يتطلب تمويلاً ضخماً، وهذا التمويل لن يأتي إلا من النفط لأنه ليس لديها مصدر آخر للدخل يمكن أن يدر عليها المليارات مثله.
4- بعض شركات السيارات تنتج أنواعاً كهربائية وتبيعها بخسارة لأنها متوسطة الكفاءة كمحركات البنزين والديزل، ومن ثم الانبعاثات تتواءم مع القوانين البيئية. بعبارة أخرى، تخسر هذه الشركات في السيارات الكهربائية ولكنها تبيع أخرى كبيرة مستهلكة للبنزين والديزل بشكل كبير ذات أرباح عالية. هذا يعني أن مصلحة شركات السيارات أن تنتج الأنواع الكهربائية، ومن مصلحتها أن تنتج أكبرها لأنها الموضة هذه الأيام، ويرغبها المستهلكون. النتيجة الحتمية لهذا الأمر هي أنه إذا لم تستطع شركات السيارات توفير سيارات عائلية كبيرة وشاحنات كهربائية بأسعار معقولة فإنها ستضطر إلى تغيير سياساتها المعلنة بخصوص وقف إنتاج السيارات العاملة بالبنزين، وستمدد الفترة.
وفي هذا السياق، ذكرت منصة الطاقة المتخصصة أن شركة "فولكس فاجن" تخطط لوقف إنتاج السيارات الكهربائية ما بين عامي 2033 و2035، ولكن في أوروبا فقط! وستستمر في بيع سيارات البنزين والديزل في مناطق أخرى من العالم، بخاصة في أميركا اللاتينية وأفريقيا، على أمل أن تتوقف عن إنتاج سيارات البنزين والديزل في عام 2050. إذاً حتى خطط شركات السيارات مطاطة.
5- بعض شركات النفط تتخلص من بعض أصولها الملوثة جداً للبيئة عن طريق بيعها لآخرين، فتظهر الشركة على أنها خفضت الانبعاثات بشكل كبير. هذه الأصول ما زالت موجودة، وما زالت تنتج، وما زالت تلوث، إلا أن بيعها يظهر أن الشركة ملتزمة بالحياد الكربوني، ولكن عالمياً، لم يتغير شيء على الإطلاق. إضافة إلى أن عدة شركات نفطية عالمية قررت عدم الاستثمار في المشاريع الصغيرة لسبب بسيط: كلما زاد إنتاج البئر، انخفض انبعاث الكربون لكل برميل منتج! بعبارة أخرى، هذه المشاريع ستتم على كل الحالات، وانخفاض بصمتها الكربونية أمر طبيعي. ولكن الآن يحسب على أنه خطوة تجاه الحياد الكربوني. أما المشاريع الصغيرة فإن الشركات الصغيرة ستقوم بها على كل الحالات، ومن ثم فإن كمية الكربون الناتجة عن إنتاج النفط في العالم لن تتغير، ولكن الشركات الكبيرة ستظهر انخفاضاً.
6- بدأت الشركات الكبرى بعدّ الأشجار الموجودة في مقارها وأراضيها لحسابها ضمن الحياد الكربوني. هذه الأشجار موجودة على كل الحالات سواء كانت هناك قوانين تجبرها على الحياد الكربوني أم لا.
7- أعادت الشركات التفكير في تبرعاتها، إذ يُعاد توجيهها إلى أمور يمكن فيها للشركة حسابها في عملية الحياد الكربوني. فإذا كانت الشركة تتبرع لمشروع للفقراء، أو اللاجئين، أو مركز تعليمي، أو مركز تدريب، أو جامعة، فإنها الآن ستتبرع لمنظمة بيئية تهتم بالغابات وتزرع الأشجار. وسيكون لذلك آثار سلبية كثيرة، وتعكس عدم المواءمة بين سياسات التغير المناخي وحقوق الإنسان، والتعارض بين سياسات التغير المناخي ونظيرتها الأخرى المتعلقة بتخفيض فجوة الدخل والعدالة والمساواة.
8- بدأ بعض الشركات الآن في التفكير بحساب انخفاض غاز ثاني أكسيد الكربون الناتج عن عمل الموظفين من بيوتهم بدلاً من قدومهم للشركة. بعبارة أخرى، هؤلاء الموظفون سيعملون من البيوت على كل حال، ولكن سياسات الحياد الكربوني تمكن الشركات من حساب عدم القدوم إلى المكتب على أنه تخفيض لانبعاثات الكربون. ومن ثمّ فإن تقليص حجم مكاتب الشركات وانخفاض استهلاك الكهرباء يحسب أيضا ضمن تخفيض الشركة لانبعاثات الكربون.
خلاصة الأمر أن أغلب هذه العمليات هي إما موجودة سابقاً وإما تحصيل حاصل، ولكنها ستظهر أن الشركات أكثر اخضراراً، وأنها تقترب من الحياد الكربوني، ولكن التغيير في الواقع محدود. كل هذه الأمور توضح أن عملية "الحياد الكربوني" هي عملية محاسبية، وسيُتلاعب بها قانوناً، الأمر الذي يؤدي إلى فشل سياسات التغير المناخي وفشل التوقعات المتعلقة بالطلب على النفط، التي تتوقع انخفاض الطلب عليه أو بلوغه ذروته.