ما إن اتفقت أطراف الحوار الليبي على موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية في ديسمبر (كانون الأول) 2021، حتى عاد الجدل في شأن مسودة الدستور التي توارت لأعوام، بعد نقاش كبير صاحب صدورها ورفضٍ لها من مكونات سياسية وثقافية واجتماعية عدة في ليبيا.
وعادت أطراف ليبية عدة للمطالبة بالاستفتاء على مسودة الدستور التي صدرت عام 2017، بعد نقاشات طويلة ضمن لجنة الصياغة المكونة من 60 عضواً، قبل التوجه إلى الانتخابات. ومن تلك الأطراف، تيار الإسلام السياسي وطيف واسع في الوسط السياسي غرب البلاد. في المقابل، تصرّ التيارات التي تمثل معسكر الشرق والأقليات الثقافية مثل الأمازيع والتبو على رفضها جملةً وتفصيلاً.
هذا الخلاف في شأن مسودة الدستور، شكّل عقدة في المفاوضات الجارية بين مجلسي النواب والدولة، ما عطّل حسم ملف الحوار السياسي والإعداد للانتخابات العامة، وبات يمثل تهديداً حقيقياً لإجرائها في الموعد المحدد لها. فما هي أوجه الخلافات بشأن هذه المسودة التي أخّرت الاستفتاء عليها أربعة أعوام كاملة؟
حكاية مسودة الدستور الخلافية
في يوليو (تموز)2017 ، اعتمدت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الليبي مسودة بموافقة أكثر من ثلثي أعضائها، بعد أعوام من الانتظار ووسط آمال عريضة بأن تسهم هذه المسودة في حل جزء من أزمات البلاد، إلا إن العكس هو ما حدث.
وبعد أن صوّتت هيئة صياغة الدستور على مشروع الدستور الليبي، بواقع 43 صوتاً من أصل 57، تقدّم عدد من أعضاء الهيئة بطعن في شأن عدم مشروعية جلسة تصويتها أمام محكمة في مدينة البيضاء، شرق البلاد.
واستند الطاعنون في رفضهم لإحالة مشروع الدستور إلى البرلمان، على أن "التصويت تم يوم السبت، الذي هو عطلة رسمية في جميع الدوائر والمصالح الحكومية في ليبيا".
ولم تتأخر محكمة البيضاء في الحكم بقبول الطعن في أغسطس (آب) من العام ذاته، أي بعد شهر من صدور المسودة، في الشقّ المستعجل، قبل أن تقضي في موضوع الدعوى، في يناير (كانون الثاني) 2018، وتحكم ببطلان قرار إحالة المسودة إلى مجلس النواب.
طعن في بنغازي
بعدها بأشهر قليلة، طعنت شخصيات عامة من مدينة بنغازي ومنظمات من المجتمع المدني في مسودة مشروع الدستور، أمام دائرة القضاء الإداري في محكمة استئناف بنغازي، وقضت المحكمة بعدم الاختصاص بالنظر في الدعوى المرفوعة ضد الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور. واستند الحكم إلى أن الهيئة ككيان، أُنشئ تنفيذاً لأحكام الإعلان الدستوري وهي هيئة أنيط بها التأسيس لسلطات الدولة وهياكلها بإعداد مشروع دستور يطرح للاستفتاء.
وقبل نهاية عام 2017، دعت الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، سلطات البلاد والبعثة الأممية في ليبيا إلى اتخاذ التدابير اللازمة لإجراء استفتاء شعبي على الدستور الجديد. وطالبت في بيان بـ"اتخاذ ما يلزم لعرض مشروع الدستور على الشعب، وإزالة كل المعوقات التي تقف في طريق إنهاء المراحل الانتقالية، وذلك عن طريق عملية ديمقراطية يشارك فيها الليبيون في الداخل والخارج". وهو ما لم يتم حتى يومنا هذا، بسبب الرفض الكبير للمسودة المطروحة للاستفتاء.
وقال عضو الهيئة ومنسق لجنة التوعية والتثقيف إبراهيم البابا، وقتها، إن "الدعوة موجهة إلى السلطة المؤقتة والبعثة الأممية، لأنه لا حل لليبيا إلا عبر الاستفتاء على مشروع الدستور التوافقي الذي يجمع بين كل الأطراف، والمقرر داخل ليبيا، ومكتوب بأياد ليبية، وحصل على نسبة عالية من الأصوات داخل الهيئة".
"مظلمة تاريخية لأهل برقة"
بعد هذه الدعوة، هدّد التكتل الاتحادي الوطني الفيدرالي، ممثل إقليم برقة، بالدعوة إلى العصيان المدني في حال إقرار مسودة الدستور المقدمة إلى البرلمان، بهدف إصدار قانون الاستفتاء بحقها، معتبراً أنها "مظلمة تاريخية لأهل برقة".
وقال التكتل في بيان "نرحّب بأي قانون للاستفتاء على الدستور، يتضمن الاستفتاء في كل إقليم على حدة، وسنقاطع أي استفتاء لا يتضمن هذا المطلب العادل، باعتبار أن المثالثة أصبحت أمراً مسلّماً به، وواقعاً تاريخياً وجغرافياً واجتماعياً".
طلب الاستفتاء في كل إقليم منفرداً، جاء بسبب خشية التكتل من مرور الدستور الذي لا يلبّي مطالب الإقليم، باعتبار أن معظم الكثافة السكانية في ليبيا تتركز في الغرب.
اعتراض الأقليات على المسودة
كذلك، قوبلت مسودة الدستور المقترحة من لجنة الصياغة، برفض الأقليات الليبية لها منذ بداية النقاشات في شأنها. ويقول عضو المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا هشام حمادي إن "الأمازيغ لم يشاركوا في صياغة الدستور، وقاطعوا أعمال الهيئة منذ بدايتها". ويرى أن "مشروع الدستور لم يصدر بطريقة قانونية، لأنه من المفترض أن يكتب بالتوافق مع المكونات الثقافية، التي من بينها التبو والطوارق، بحسب ما جاء في الإعلان الدستوري".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم يشارك الأمازيغ في انتخابات الهيئة، بسبب رفض المؤتمر الوطني "البرلمان الأسبق" تعديل نظام التصويت على اتخاذ القرارات المتعلقة بحقوقهم الثقافية، وإبقاء نظام التصويت بغالبية ثلثي الأعضاء زائداً واحداً. وهو ما عدّه الأمازيغ إجحافاً بحقهم لاعتبارهم أقلية داخل الهيئة.
ويتمسك الأمازيع حتى اليوم بمطلب تعديل الدستور الجديد ليتوافق مع الهوية الليبية وتاريخ البلاد، ويشددون على أن الحق الأمازيغي يندرج تحت ما يُسمّى "حقوق الشعوب الأصيلة وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان".
وطالب المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا، في بيان بعد صدور المسودة، بأن "يكون الدستور معبّراً عن الهوية الليبية بجميع مكوناتها العربية والأمازيغية، تحقيقاً للعدالة، وأن تكون اللغة الأمازيغية رسمية في الدستور الليبي، ووضع آلية وجدول زمني لتحقيق ذلك، ويتم التنصيص على وجوب حمايتها والإنفاق على إنشاء مراكز بحثية خاصة بها لتطويرها لتواكب العصر، وتدريسها في المناطق الأمازيغية وخارجها لمن يرغب بذلك، وأن تكون في الوثائق الرسمية للدولة، وأن تتم الإشارة إلى جميع المكونات في (العلم والنشيد والعملة وطوابع البريد وشعارات الدولة الليبية)، وغيرها من حقوق الإنسان والمواطنة".
مقاطعة التبو
لم يختلف موقف أقلية التبو الليبية عن الموقف الأمازيغي من مسودة الدستور، إذ رفض ممثلا التبو في الهيئة التأسيسية، السنوسي حامد وهلي وخالد أبو بكر وهلي، إقرار مشروع الدستور، قبل التوافق عليه مع التبو. وقالا إن "الهيئة يستحوذ عليها المكون العربي الذي هيمن على تنظيم أعمالها وقراراتها، بلا أي اعتبار لقرار القوميات الأخرى".
وتابع العضوان في بيان، "ما وضعه الإعلان الدستوري المؤقت من مبدأ اتخاذ قرارات الهيئة التأسيسية، وفقاً لمعادلة توافقية صريحة تجمع ما بين الغالبية والأقليات القومية، بحيث لا تهيمن الغالبية على الأقليات، وعبر إصدار الهيئة قراراتها بالثلثين زائداً واحداً، مع وجوب التوافق مع التبو والطوارق والأمازيغ، لأن هذه المعادلة هي الشرعية الوحيدة بكل المقاييس لتأسيس دولة ليبيا الجديدة".
وأكدا "الرفض التام لما يسمّى بمسودة مشروع الدستور من قبل مكوّن التبو، لأن ليبيا بلد متعدد القوميات، وإخلال المسودة المطروحة بمبدأ التوافق الذي هو الأساس لبناء ليبيا الديمقراطية".