مع كل خسارة جديدة لليرة التركية مقابل الدولار الأميركي، فإن الأوضاع المعيشية والحياتية في تركيا تتجه إلى مزيد من الأزمات، وبخلاف أزمة استمرار اعتماد الحكومة التركية على الاعتماد على الاستدانة وتمويل الإنفاق العام وتجاوز العجوزات المالية الضخمة، فإن الأتراك أصبحوا في مواجهة حتمية مع قنبلة الديون المتعثرة، فيما تواجه الحكومة أزمة أكثر عنفاً تتمثل في ارتفاع قياسي في فوائد الدين الخارجي والداخلي.
البيانات الرسمية تشير إلى أنه منذ بداية العام الحالي فقط، فقدت الليرة التركية ما يقرب من 17 في المئة من قيمتها مقابل الدولار، لتربح الورقة الأميركية الخضراء نحو 1.24 ليرة، بعد ما صعد سعر الصرف من مستوى 7.34 ليرة في بداية العام الحالي إلى 8.58 ليرة في تعاملات مايو (أيار) الماضي.
وخلال يوم واحد فقط، تسببت خسائر الليرة في أن تقفز فوائد الدين الخارجي المستحق على الحكومة التركية بنحو 20 مليار دولار، لتسجل نحو 176 مليار دولار في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي.
ديون الأفراد تتجاوز 210 مليارات دولار
بالنسبة إلى الديون المستحقة على المواطنين الأتراك، فقد ارتفعت خلال الأسبوع الأخير من مايو الماضي بنحو 10.1 مليار ليرة (1.203 مليار دولار)، لتصل القيمة الإجمالية لديون الأتراك إلى نحو 882.3 مليار ليرة (105.160 مليار دولار)، وذلك وفقاً لبيانات حديثة أصدرتها هيئة التنظيم والرقابة المصرفية في تركيا.
وكشفت الهيئة، أنه من بين المبلغ الإجمالي 18.2 مليار ليرة (2.169 مليار دولار) قروض متعثرة، أما القروض الاستهلاكية، فبلغت قيمتها الإجمالية نحو 722.9 مليار ليرة (86.162 مليار دولار)، فيما تبلغ ديون بطاقات الائتمان 159.3 مليار ليرة (18.986 مليار دولار)، ليصل بذلك إجمالي ديون الأتراك إلى نحو 1764.5 مليار ليرة (210.309 مليار دولار).
وأشارت البيانات إلى استمرار ارتفاع فوائد الديون المستحقة على المواطنين الأتراك مع ارتفاع ديونهم، فخلال أول أربعة أشهر من العام الحالي، سدد الأتراك نحو 34.5 مليار ليرة (4.112 مليار دولار) كفوائد ديون فقط، مسجلة ارتفاعاً بـ33.7 في المئة، مقارنة بفوائد الديون خلال نفس الفترة من العام الماضي.
وارتفعت ديون الشركات الصغيرة والمتوسطة للبنوك بمقدار 3.5 مليار ليرة (0.417 مليار دولار) خلال أبريل الماضي، لتصل إلى 939.1 مليار ليرة (111.930 مليار دولار). كما زادت ديون قطاع الزراعة للقطاع المصرفي بنحو 3.2 مليار ليرة (0.381 مليار دولار)، ليصعد الرقم الإجمالي إلى نحو 143.6 مليار ليرة (17.115 مليار دولار).
الديون تقفز لـ1.2 تريليون دولار
قبل أيام، كشف تقرير متابعة القروض الدولية الصادر عن معهد التمويل الدولي عن ارتفاع ديون تركيا إلى 1.2 تريليون دولار، على الرغم من تراجع الديون الدولية بنحو 1.7 تريليون دولار لتسجل نحو 289 تريليون دولار.
وأوضح التقرير أن نسبة إجمالي الديون للدخل القومي التركي خلال الربع الأول من عام 2020 بلغت نحو 144.3 في المئة، لكن هذه النسبة واصلت الارتفاع خلال الربع الأول من العام الحالي لتسجل 163.4 في المئة. مشيراً إلى تصدر تركيا قائمة أعلى الدول النامية في الهشاشة أمام التغيرات المناخية وأقل الدول النامية في مقاومتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكشفت دراسة حديثة أعدها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، ومقره الإمارات، أن الاقتصاد التركي مر خلال السنوات القليلة الماضية بحالة عدم استقرار شديدة، تمثلت ملامحها في عدم استقرار النمو الاقتصادي الكلي، وعدم استقرار الأوضاع المالية والنقدية، وهو ما بدا واضحاً في صورة اضطراب شديد في سعر صرف الليرة، الذي أفضى إلى تراجع قيمتها إلى مستويات غير مسبوقة.
وقد انعكست هذه الظروف على مختلف جوانب الحياة في تركيا، كما أنها تجلت خلال الفترة الماضية في صورة ارتفاع غير مسبوق في القروض المتعثرة في القطاع المصرفي، كصورة جديدة تضاف إلى صورة التأزم التي يعيشها القطاع الاقتصادي.
ويمثل تفاقم الديون المتعثرة أزمة بالنسبة للقطاع المصرفي، ورغم أنه يأتي انعكاساً للمعطيات الاقتصادية السلبية في البلاد، لكنه قد يمثل سبباً لأزمة جديدة ربما يشهدها الاقتصاد خلال الفترة المقبلة، لا سيما لدى حدوث حالات تخلف عن سداد الديون بالقطاع المصرفي في البلاد بمعدلات كبيرة.
وكشف تقرير حديث للبنك المركزي التركي ارتفاع قيمة القروض البنكية المتعثرة في القطاع المصرفي في البلاد إلى 570 مليار ليرة، وبما يعادل نحو 68 مليار دولار، بنهاية الربع الأول من عام 2021. وقد رد البنك المركزي 46 في المئة من الارتفاع في القروض البنكية المتعثرة في البلاد في الأساس إلى التغير الذي طرأ على أسعار العملات الأجنبية أمام الليرة منذ مارس (آذار) 2020، لا سيما أن العملات الأجنبية تشكل أكثر من نصف تلك القروض، وبنسبة تبلغ 54.8 في المئة منها.
ويمثل الارتفاع في قيمة القروض المتعثرة اتجاهاً عاماً يعيشه القطاع المصرفي في تركيا منذ فترة، لا سيما أن البيانات أظهرت أنه خلال الفترة بين يناير (كانون الثاني) وأغسطس من عام 2020، اتخذت البنوك العاملة في تركيا إجراءات حجز على أصول تابعة لنحو 580 ألف عميل، بسبب تخلفهم عن سداد ديون مستحقة عليهم، بواقع 302 ألف عميل، تخلفوا عن سداد قروض استهلاكية، و278 ألفاً تخلفوا عن سداد قروض بطاقات الائتمان الخاصة بهم.
صافي الدخل الحقيقي يتراجع
وربطت الدراسة ارتفاع نسب التعثر في تركيا باستمرار خسائر الليرة، مؤكدة أن تراجع قيمة العملة ما هو إلا تراجع صافي في الدخل الحقيقي للأتراك، وهو ما يعني أنهم باتوا مطالبين بدفع مزيد من الأموال، للمحافظة على المستوى المعيشي نفسه، كما أن هذا التطور من شأنه تقليص قدرة الأتراك على الوفاء بالتزاماتهم المالية، سواءً تعلق الأمر بتأمين احتياجاتهم الضرورية أو ارتبط بالوفاء بأقساط الديون المستحقة عليهم.
وفي هذا الإطار، تراجعت قيمة الليرة بنحو 30 في المئة خلال 2020، كما أنها عانت حالة من التذبذب الشديد، ما دفع وكالة "بلومبيرغ" إلى تصنيفها كـصاحبة ثاني أسوأ العملات أداء في الأسواق الناشئة، بعد الريال البرازيلي، في معظم فترات 2020، وبالتأكيد فقد أسهم ذلك في تخلف ما يزيد على نصف مليون تركي عن سداد ديونهم البنكية خلال العام الماضي.
واستمراراً للاتجاه نفسه، فقد واصلت الليرة تراجعها خلال 2021، ما أفقدها مجدداً نحو 17 في المئة من قيمتها منذ بداية العام، حيث تراجع سعر صرفها من نحو 7.34 ليرة للدولار في بداية عام إلى 8.58 ليرة للدولار بنهاية مايو الماضي، مسجلة بذلك أدنى مستوى لها على الإطلاق، كمؤشر على مستوى الضغوط التي يعانيها الاقتصاد. ولعل التراجع في قيمة الليرة منذ بداية العام، كان له دور كبير في تفاقم أزمة الديون المتعثرة في البلاد، وبلوغها نحو 67 مليار دولار، ولتصل بدورها إلى أعلى مستوى.
أرضية خصبة لتفاقم الأزمات
وقالت الدراسة، إن استمرار الأزمات الحالية يمثل أرضية خصبة لتفاقم الأزمات التي يعيشها الاقتصاد، بخاصة فيما يتعلق بالجوانب النقدية، فاستمرار التراجع الحالي في قيمة الليرة بنفس المعدلات القائمة خلال الفترة المقبلة، من شأنه أن يتسبب في مزيد من الارتفاع في تكاليف المعيشة في البلاد.
ومع الأخذ في الاعتبار أن تراجع قيمة الليرة تسبب في ارتفاع تكاليف المعيشة في تركيا بما يوازي 82.1 في المئة منذ عام 2011، حتى الآن، وأن الأتراك يضطرون حالياً لدفع ما يوازي 5.5 أمثال ما كانوا يدفعونه في ذلك العام، لكي يتمكنوا من تأمين نفس احتياجاتهم من السلع والخدمات، فإن ذلك يعني أن استمرار تراجع الليرة خلال الفترة المقبلة يعني مزيداً من الارتفاع في تكاليف المعيشة في البلاد، وأن الأتراك سيكونون مطالبين بدفع مزيد من الأموال للمحافظة على المستوى المعيشي نفسه.
في الوقت نفسه، فإن الحكومة التركية لا تمتلك عديداً من الخيارات للتعامل مع الأزمة الراهنة، وهو ما يبدو من خلال عدم جدوى ما قامت به خلال الفترة الماضية، من إجراءات للدفاع عن قيمة العملة باستخدام احتياطي النقد الأجنبي، الذي توسع البنك المركزي في السحب منه، وجرى استهلاك نحو 115 مليار دولار منه منذ بداية عام 2020، لتصل قيمته إلى 89.3 مليار دولار، مقارنة بأكثر من 200 مليار دولار في نهاية 2019.