يشكل تعطل حركة الاستثمار في تونس أول عامل لتراجع مؤشر النمو، ويرافق تقهقره تراجع حركة الصادرات، مما أدى إلى تعطل الاقتصاد المحلي في السنوات الأخيرة بشكل عجز فيه عن الإنتاج وخلق الثروة. وبلغ انخفاض نسب الاستثمار والادخار مستويات غير مسبوقة في تونس، إذ سجلت نسبة الاستثمار من الناتج المحلي الاجمالي 13 في المئة في الثلث الأول من عام 2021، وفق محافظ البنك المركزي التونسي. وهي نسبة ضئيلة للغاية مقارنة بـ 24.6 في المئة لعام 2010. لكن عدم إقدام تونس في الفترة الأخيرة على تقديم فرص استثمار جديدة لاستقطاب مستثمرين جدد يعد أسوأ مؤشر بحسب مراقبين. وارتبط ذلك بغياب تونسي عن المحافل الدولية المخصصة لجذب الاستثمار نتيجة الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد.
517 عملية استثمار
وتراجعت حركة تدفق الاستثمارات الخارجية في تونس مع نهاية عام 2020، وتواصل ذلك المنحى في النصف الأول من العام الحالي، لكن وزارة الاستثمار تحرص على التأكيد على امتلاك تونس مقومات القدرة التنافسية التي تمكنها من استقطاب استثمارات أجنبية جديدة، حيث شهد العام الماضي 517 عملية استثمار بقيمة 1213,8 مليون دينار (449.2 مليون دولار) خلقت 9630 فرصة عمل. في المقابل، لم تقدم تونس عروض استثمار جديدة هذه السنة، على الرغم من حاجتها الملحة لدفع عجلة الاستثمار الخارجي خاصة لخلق الثروة وتنمية مدخراتها من العملة الصعبة. وأعلنت وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي منذ أيام عن تأجيل الدورة الـ 21 لـ "منتدى تونس للاستثمار" الذي دأبت على تنظيمه في شهر يونيو (حزيران)، ومرة كل سنتين منذ عام 2015، وذلك نتيجة الظرف الصحي وتفشي فيروس كورونا. ومن شأن ذلك أن يعمق أزمة غياب تدفق الاستثمارات الخارجية.
وأدى تراجع الاستثمارات إلى صعوبات في تعبئة الموارد الخارجية في شكل استثمارات خارجية، وتدهور في صافي رؤوس الأموال الأجنبية لتبلغ 811 مليون دينار تونسي (300.3 مليون دولار) خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2021، مقابل 5 مليار دينار (1.8 مليار دولار) لعام 2020. يُضاف ذلك إلى تراجع حاد في مساهمة الاستثمارات الأجنبية في التمويل الخارجي في العشرية الأخيرة، لتنتقل من 40 في المئة في عام 2010 إلى 11.4 في المئة في عام 2020، ما يمثل تدحرجاً من 3.4 في المئة إلى 1.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
العوامل المؤدية إلى انعدام فرص الاستثمار الجديدة
العامل الأول لانعدام فرص الاستثمار الجديدة هو نسبة ثلاثة في المئة من الاستثمار العمومي، إذ أنه قبل تأجيل الدورة 21 لـ "منتدى تونس للاستثمار الخارجي"، عُقد مؤتمر فاشل لجذب الاستثمارات هو "مؤتمر تونس للاستثمار 2020" الذي لم تحصل منه تونس على أسواق جديدة، بينما لا تزال تواجه فشل استقطاب مستثمرين جدد، وبالتالي لم تقدم عروضاً جديدة للاستثمار، وهذا ما ورد على لسان الباحث الاقتصادي عز الدين سعيدان" في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، فقال إن "تنمية الاستثمار الخارجي لجذب العملة الصعبة بخلق عروض جديدة تسبقه مراحل، إذ يُفترض التدرج والمرور بالاستثمار العمومي أولاً لدفع الاستثمار الخاص في مرحلة ثانية. ثم في مرحلة أخيرة يتم استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وهي ثلاث مراحل متلازمة. ويتوجب على الدولة أن تستثمر في البنية التحتية والمشاريع الكبرى مثل الطرقات والرقمنة، لتحفز القطاع الخاص على الاستثمار في هذه المجالات، الأمر الذي لا تقوم به الدولة حالياً في تونس".
وحاز الاستثمار العمومي على نسبة محترمة في السابق من موازنة الدولة، فحين بلغت في عام 2010، 18 مليار دينار، تم تخصيص ربعها للاستثمار العمومي. أما اليوم، فتبلغ موازنة الدولة 53 مليار دينار أي تضاعفت ثلاث مرات، خُصص منها ثلاثة في المئة فقط للاستثمار العمومي. وهنا تبدو الدولة شبه متخلية عن الاستثمار العمومي، ونتيجة لذلك توقف الاستثمار الخاص الداخلي والخارجي، إضافة إلى الوضع السياسي السيء والاجراءات الجبائية غير الواضحة وغير المستقرة وتوتر الوضع الاجتماعي.
أما العامل الثاني لانعدام فرص الاستثمار الجديدة فهو تراجع التصنيف السيادي ثماني مرات خلال 10 سنوات، الذي يؤثر بشكل كبير في تقييم وجهات الاستثمار في العالم. وتشكو تونس تراجع ترقيمها السيادي ثماني مرات منذ عام 2011. وأوضح عز الدين سعيدان أن "المستثمرين الأجانب يراقبون هذا التصنيف الذي يمثل أهم مؤشر لديهم لسلامة المناخ الاستثماري. ومنحت وكالة موديز تونس تصنيف "ب سلبي" في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، في حين صنفتها وكالة فيتش "3 ب سلبي" في شهر فبراير (شباط) 2021. ولذلك وقع كبير على المستثمرين الأجانب، إذ يحدد قرار اتجاههم إلى تونس من عدمه. وهذا ما يفسر عزوفهم حالياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العامل الثالث لانعدام فرص الاستثمار الجديدة هو غياب التمويل وضحالة الادخار الداخلي الذي بلغت نسبته 4 في المئة. وتشكو الوجهة التونسية من انعدام القدرة على توفير التمويل للمستثمرين من قبل السوق المالية الداخلية، التي يُفترض أن يتجه إليها المستثمر الأجنبي. ويتم تمويل السوق الداخلية بمدخرات خاصة بالاستثمار بواسطة الادخار الداخلي. وبين عز الدين سعيدان أن "الادخار الداخلي هو الجزء غير المستهلَك من الناتج الداخلي الخام، ويتم استعماله لتمويل الاستثمار. وبلغ الادخار الداخلي في عام 2010 ما يساوي 22 في المئة من الناتج الداخلي الخام. وهي نسبة غير مرتفعة لكنها محترمة. في حين لا تتجاوز نسبة الادخار الداخلي حالياً 4 في المئة من الناتج الداخلي الخام".
عدم القدرة على الاقتراض
ومما يعمق العجز على التمويل، هو عدم قدرة تونس على الاقتراض من الخارج في الوقت الراهن. ويعني ذلك غياب التمويل الداخلي والخارجي للمستثمر في ظل نسبة انكماش للنمو بلغت 8.8 في المئة في عام 2020 و3 في المئة في الأشهر الأولى لعام 2021. واعتبر سعيدان أن "العامل الإضافي الذي يمثل طارداً فعلياً للاستثمار في تونس هو قانون الاستثمار المدمر، إذ يحتوي على عوائق تحول دون جذب المستثمرين".
مناخ يسوده الفساد والمحسوبية
من جهة أخرى، يرى الباحث الاقتصادي نادر حداد أن "المناخ العام في تونس يمثل عائقاً بحد ذاته أمام الاستثمار الداخلي والخارجي، إذ لا تتوفر حالياً مبادرات جديدة معروضة في تونس لجذب متعاملين جدد، ولا توجد فرص استثمار. فتونس غائبة عن الندوات الدولية المخصصة للاستثمار منذ مدة، وأهمها تلك المنعقدة في دبي ولندن. كما لا تقوم الإدارات المختصة بجذب الاستثمارات بدورها، إضافة إلى عدم تحرك الدبلوماسية التونسية في هذا الاتجاه، والترويج للوجهة التونسية. ويعود ذلك إلى الأزمة السياسية المخيمة على البلاد بسبب الخصومات المتواصلة بين الرئاسات الثلاثة (رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان)، وغياب الاستقرار السياسي. كما يطلع المستثمرون الأجانب على التراجع الكبير المسجل على كل المستويات. ولا تتوفر البنية التحتية الملائمة في تونس لإقامة مشاريع ضخمة، علاوةً على الفساد والمحسوبية والرشوة التي تسود الإدارة التونسية وعجزت الحكومات المتعاقبة عن مقاومتها".
الاقتصاد الريعي وغياب الانفتاح
في سياق متصل، يعاني الاقتصاد التونسي غياب سياسة الانفتاح الموجودة لدى بلدان منافسة توفر حرية المبادرة في الاستثمار. ورأى حداد أن "المستثمرين ينجذبون إلى البلدان الأكثر انفتاحاً وتشجيعاً على بعث المشاريع، بعكس تونس التي يسيطر عليها النظام الريعي الذي يقوم على حماية عائلات معينة تنحصر لديها الثروة، وذلك عن طريق "نظام الرخص"، الذي يقتل المبادرة الفردية. ويحتم على المستثمر الانتظار لسنوات للحصول على رخصة. كما يشكو من العراقيل الادارية والبيروقراطية القاتلة".
قانون صرف بدائي
كذلك، يراوح قانون الصرف في تونس مكانه ولا يتطور، واعتبره حداد "بدائياً، فهو من العوائق التي تقف في وجه المستثمرين، إذ لا يوفر التسهيلات البنكية عند تحويل الأموال إلى العملة الأجنبية، في وقت تعاني فيه تونس من نقص في مدخراتها من العملة الصعبة، الأمر الذي يؤرق المستثمرين الساعين الى تحويل أرباحهم بالعملة الصعبة إلى الخارج. وبينما تغيب الحوافز المالية الأساسية في تونس تتجه شركات عدة في العالم إلى تطوير أساليبها والاتجاه إلى التعامل بالعملات الرقمية مما بات يجسد فجوة واضحة مع الاقتصاد المحلي".