تواصل عجلة الانهيار الاقتصادي في لبنان دورانها بسرعة قياسية، مخلفة وراءها أضراراً اجتماعية كارثية، بحيث بات وفق تقارير البنك الدولي حوالى 55 في المئة من سكان البلد في دائرة الفقر، بينما يعيش أكثر من 25 في المئة من المواطنين تحت خط الفقر المدقع.
في المقابل، أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أكثر من مرة أن الاحتياطات بالعملة الأجنبية القابلة للتحكم، تقترب من الخطوط الحمر، وأنه لن يستطيع الاستمرار بسياسة دعم السلع الاستراتيجية بالشكل الحالي، التي تتجاوز كلفتها 5 مليارات دولار سنوياً، ما دفع باتجاه التفكير بإنشاء بطاقة "تمويلية" لتدارك الكارثة الاجتماعية المقبلة في حال تم رفع الدعم من دون إيجاد حل بديل، إذ تشير التقديرات إلى أن رفع الدعم بلا حلول رديفة سيؤدي إلى ارتفاع معدلات الفقر إلى ما فوق 80 في المئة من السكان و50 في المئة منهم تحت خط الفقر المدقع.
ووفق المعلومات، فإن قيمة مشروع البطاقة المقترحة ستنطلق من مبلغ مقطوع لكل أسرة بقيمة 26.4 دولار مهما كان عدد أفرادها، إضافة إلى 26.4 دولار عن كل فرد من أفراد الأسرة (متوسط عدد الأسرة الواحدة في لبنان هو 4.2 شخص، بما يعني أن متوسط الدعم الشهري للأسرة هو 137 دولاراً) مع حد أدنى قيمته 53 دولاراً للأسرة وحدّ أقصى قيمته 185 دولاراً، بالتالي تُقدّر كلفة البطاقة "التمويلية" بمليار و235 مليون دولار سنوياً، على أن يستفيد منها نحو 750 ألف عائلة بمن فيهم الأسر الأكثر فقراً.
وأثار مشروع بطاقة الدعم المالي، انتقادات عدة لا سيما إن لم تشكل آلية تمويل واضحة، إضافة إلى غياب المعايير التي تحدّد وفقها الأسر المستفيدة، والتي إن وضعت تحتاج إلى أشهر طويلة لتنفيذها، إلى جانب تناقض كبير بحيث تسعى الحكومة من خلال البطاقة، إلى أن تتحول لبرنامج جديد للأسر الأكثر فقراً، مفترضة أن هذا الوصف ينطبق على ثلثي اللبنانيين، لكنها في المقابل تعتبر أن من يتقاضى راتباً يفوق المليونَي ليرة، أو من لديه معيل في الخارج ليس أهلاً للبطاقة، ما يترك هامشاً كبيراً للتلاعب وإدراج أسماء غير مستحقين.
استنسابية وفساد
في السياق ذاته، يتوقع المحلل السياسي سيمون أبو فاضل، أن تتحول هذه البطاقة إلى بطاقة انتخابية عبر توزيعها بشكل استنسابي على المواطنين، مشيراً إلى "غياب الثقة بالدولة، إذ أثبتت التجارب السابقة إدراج أسماء متوفّين على لائحة المستفيدين وغياب المعايير الشفافة للمستفيدين منها كما حصل في موضوع التلقيح ضد فيروس كورونا"، مؤكداً أن هذه البطاقة لن تخلو من الزبائنية والاستنسابية والفساد، كاشفاً عن أن "العمل عليها لا يبدو جدياً والتفاصيل الخاصة بها لم تُحسم بعد"، معتبراً أن الطوفان والكارثة قد تسبق إنجاز تلك البطاقة.
أما في ما يتعلق برفع الدعم، فتوقّع أن يلجأ مصرف لبنان إلى استخدام فائض الودائع للاستمرار بدعم محدود للسلع الأساسية من دون المساس بالاحتياطي الإلزامي، متخوفاً من تحميل المركزي وحده مسؤولية الانهيار، فتزداد المخاوف من تسبّب رفع الدعم بفوضى أمنية واسعة.
توحيد المعايير
في المقابل، دافع مستشار رئيس الحكومة خضر طالب عن خطة البطاقة التي تعمل لجنة في حكومة تصريف الأعمال على وضعها، نافياً كل ما يتم تداوله عن استنسابية في الحصول عليها، موضحاً "أن مشروع البطاقة يستند إلى دراسات الحكومة والبنك الدولي، وتظهر أن عدد العائلات الفقيرة بلغ قرابة مليون و100 ألف، ومن بينهم قرابة 70 في المئة تحت خط الفقر، لذا يشمل مشروع البطاقة التمويلية حوالى 750 ألف عائلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشرح أنه يوجد في لبنان حالياً ثلاثة برامج رسمية تدعم العائلات، الأول عن طريق الجيش اللبناني، يستفيد منه نحو 300 ألف عائلة تحصل شهرياً على 400 ألف ليرة (نحو 31 دولاراً في السوق السوداء)، أما الثاني عن طريق وزارة الشؤون الاجتماعية، ويستفيد منه نحو 50 ألف عائلة، بمساعدة تصل إلى 800 ألف ليرة، والثالث هو برنامج مشروع القرض الميسر من البنك الدولي وقيمته 246 مليون دولار، ويشرف على إعداد بطاقة تستهدف الوصول إلى أكثر من 160 ألف عائلة فقيرة (أي نحو 800 ألف شخص)، بمساعدة تصل إلى حدود 800 ألف ليرة شهرياً (نحو 65 دولاراً).
ويشير طالب إلى أن مشروع البطاقة يشمل حاجة العائلات إلى السلع الأساسية، مؤكداً توحيد المعايير في البرامج الثلاثة، مقابل إنهاء برنامج المساعدة الحكومية التي يتولى توزيعها الجيش، وستغطي "البطاقة التمويلية" فارق المساعدة في برنامجَي قرض البنك الدولي ووزارة الشؤون الاجتماعية، ومشدداً على أن هدف البطاقة تخفيف وطأة رفع الدعم عن المواطنين. وأضاف "نعمل على تأمين مواردها من الجهات المانحة الخارجية أو البنك الدولي أو من مالية الدولة"، إلى جانب سعي الحكومة لتوحيد داتا العائلات اللبنانية.
ترشيد الدعم
أحيل مشروع البطاقة إلى اللجان المختصة في المجلس النيابي لمناقشته قبل التصويت عليه، وتضمن المشروع إلغاء الدعم على بعض السلع (غاز، السلة الغذائية) وزيادته على ربطة الخبز وتخفيضه بشكل حاد على البنزين والمازوت والأدوية، بهدف خفض كلفة الدعم الحالي من 5.04 إلى 1.2 مليار دولار أي بتوفير 3.844 مليار، علماً أن هذا التصور يتماشى بشكل جزئي مع التوجه المعلن من قبل مصرف لبنان برفع الدعم عن جميع السلع.
ويشير المشروع المقترح من وزارة المالية إلى تغيرات كبيرة ستطال سلعاً أساسية يحتاج إليها المواطن، إذ سيتم تخفيض قيمة الدعم الحالية بنسبة 83 في المئة عن البنزين ليصبح سعر السوق لكل 20 ليتراً، 123 ألف ليرة لبنانية (11 دولاراً بحسب السوق السوداء)، بدلاً من 40 ألف تقريباً (3 دولارات)، وتنخفض كلفة دعم البنزين على مصرف لبنان إلى 200 مليون دولار عوضاً عن 1.152 مليار دولار سنوياً.
أما المازوت، فيتم تخفيض نسبة الدعم الحالي بنسبة 86 في المئة، فيرتفع سعر الصفيحة من 27 ألف ليرة إلى 113 ألفاً. بالتالي تصبح كلفة الدعم حوالى 200 مليون دولار عوضاً عن 1.422 مليار سنوياً، في حين يلحظ المشروع إلغاء الدعم على الغاز ليصبح سعر القارورة 93 ألفاً بدلاً من 27 ألف ليرة حالياً، وتنخفض كلفة الدعم على مصرف لبنان من 132 مليون سنوياً.
كما يتضمن المشروع إلغاء السلة الغذائية بالكامل، التي تقدّر كلفتها السنوية بـ858 مليون دولار، مقابل رفع الدعم بنسبة 12 في المئة على ربطة الخبز كونها من مقومات الحياة الرئيسة، بكلفة تقدر بـ 15 مليون دولار شهرياً. ويشير النص المقترح إلى تخفيض نسبة دعم الأدوية بـ 54 في المئة لتصبح قيمة الدعم نحو 600 مليون دولار بدلاً من 1.3 مليار سنوياً.
تمويل البطاقة
وتشير مصادر في وزارة المالية إلى أن المشروع المقترح من قبلها حول ترشيد الدعم يؤدي إلى تحقيق وفر في احتياطات المصرف المركزي بقيمة 3.844 مليار دولار، بالتالي يستطيع المصرف المركزي تأمين التمويل اللازم للبطاقة المخصصة لدعم شريحة كبيرة في المجتمع اللبناني. إلا أن مصادر المركزي تؤكد عدم قدرتها على دعم هذه البطاقة، لا سيما أن الاقتراح يتضمن دفعها بالدولار الأميركي، الأمر الذي سيؤدي إلى استخدام الاحتياطي الإلزامي وهو أمر يتناقض مع القانون. في المقابل، تؤكد رفض دفع قيمة البطاقة بالليرة اللبنانية كونها ستؤدي إلى تضخم كبير في الاقتصاد.
وترى المصادر أن مسؤولية تأمين مصادر تمويل البطاقة تقع على عاتق الحكومة وليس المصرف المركزي، إذ "لا يجوز أن يكون تمويل بطاقة اجتماعية مصدره أموال المودعين"، مشيرة إلى أنه بإمكان الحكومة التفاوض مع البنك الدولي أو الجهات المانحة.
فاجعة كبرى
من جهة ثانية، يحمّل المحلل الاقتصادي زياد ناصر الدين، المسؤولية إلى القطاع المصرفي الذي برأيه يحتجز أموال مليون و700 ألف مواطن، ولو فُك جزء من الاحتياطي وأُعطي للمودعين، بنسب معيّنة، وبحصره في الداخل اللبناني يمكن حينها أن تتحرك السوق، التي بدورها تسهم بدعم الليرة وتحسّن القدرة الشرائية لشريحة كبيرة من اللبنانيين، منتقداً سياسة رفع الدعم، لا سيما عن البنزين الذي "يؤدي إلى ارتفاع رهيب بأسعار القطاعات الاقتصادية كافة بسبب زيادة سعر النقل وانعكاسه على كل السلع والأجور".
ولفت إلى أنه "عام 2000، كان الاحتياطي الإلزامي في المصرف المركزي يبلغ 800 مليون دولار، ولم يُرفع الدعم، في حين يبلغ الاحتياطي حالياً 15 مليار دولار، ونملك 18 مليار دولار من الذهب، ما يعني أننا نملك ما يقارب 32 مليار دولار"، معتبراً أن الحل يكمن في تحرير سعر صرف الدولار الذي كلّف تثبيته خلال الأعوام الماضية عشرات مليارات الدولارات.
ويوضح ناصر الدين أن رفع الدعم سيؤدي إلى فاجعة كبرى، لا سيما "أن 60 في المئة من الحياة الطبيعية في لبنان لا تزال مدعومة على سعر 1500 ليرة، مثل البنزين والدواء والمازوت والإنترنت والتلفون والضرائب والجمارك والمدارس والجامعات"، معتبراً أنه على المصرف المركزي أن يدعم الإنتاج الصناعي، وتحرير جزء من أموال المودعين لإحداث حركة جديدة في السوق الاقتصادية، مع تخفيف الاستيراد وتطبيق القوانين على شركات الاحتكار.