تستمر الدراما العربية في تكرار نفسها، معتمدةً بالدرجة الأولى على أسماء نجوم محددين، تتردد وجوههم على الشاشة الصغيرة عاماً بعد آخر، حتى لو كانت أعمالهم دون المستوى. وغالباً ما يتذرع المنتجون بحاجتهم إلى أسماء معروفة لكي يتمكنوا من التسويق لأعمالهم، وإن تم ذلك على حساب جودة العمل الفني، نصاً وإخراجاً وتمثيلاً.
هذا الأمر لا يزال مستمراً حتى اليوم في معظم الأعمال العربية، لأن الرأسمال يخاف المجازفة، ولكن يبدو أنه لن يستمر طويلاً، خصوصاً مع سيطرة المنصات على جزء لا يستهان به من الإنتاجات العربية، والتي أثبتت قدرتها على جذب نسبة لا بأس فيها من المشاهدين الذين وجدوا عبرها أعمالاً ترضي ذائقتهم الفنية وتحترم عقولهم، نصاً وإخراجاً وأداءً وتمثيلاً. وهذا على عكس ما يحدث في الدراما التلفزيونية، التي تسيطر عليها المحسوبيات والمصالح، واختيار المنتجين لبطولة أعمالهم نجوماً، انطلاقاً من شكلهم الجميل وعدد متابعيهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ولهيمنتهم على العمل الفني بشكل عام، مع تحجيم دور الكاتب والمخرج اللذين يضطران إلى الرضوخ والمسايرة، لأنهما يريدان أن يسترزقا. هذا عدا إقصاء عدد كبير من الممثلين الموهوبين عن الشاشة لمصلحة وجوه معينة تتكرر من عمل إلى آخر، أو الاستعانة بهم بأدوار ثانوية مساندة، بالإضافة إلى صلة القرابة التي يمكن أن تدفع بصناع العمل إلى مسايرة ممثلين على حساب آخرين من خلال زيادة عدد مشاهدهم في المسلسل بهدف إبرازهم وتسليط الأضواء عليهم، وحذف عدد كبير من مشاهد ممثلين آخرين أكثر موهبة أو حتى إقصائهم عن الأدوار الأساسية والمهمة.
هل تنجح دراما المنصات التي تعمل وفق شروط معينة تراعي كل عناصر العمل في تغيير المعادلة وفي نقل العدوى إلى الدراما التلفزيونية، مما يصب أولاً وأخيراً في مصلحة الدراما العربية؟
التساوي الفني
الكاتب السوري هوزان عكو الذي يركز معظم نشاطه على كتابة دراما المنصات، يقول: "في الدراما التي تنتج للمنصات تكون كل العناصر متساوية وبالقوة نفسها، ولا يكون هناك إضعاف عنصر على حساب عناصر أخرى. الفائدة التي تقدمها المنصات تكمن في كونها أوجدت نوعاً من التكامل بين عناصر العمل، لأنها تركز على جودة العمل بحد ذاته، بحيث لا يكون هناك خلل في أي عنصر من عناصرها، سواء أكان الممثل أو مستوى الإنتاج والإخراج. فهي توظف كل العناصر من أجل إنجاح العمل ورفع قيمته، لكي يكون مناسباً وقادراً على لفت أنظار المشاهد. المنصات دفعت بالدراما خطوة إلى الأمام من أجل مستوى الأعمال وسويتها. وهذا أمر إيجابي، وأنا أتوقع أن نرى مستوى أعلى من الأعمال في القادم من الأيام، نتيجة التكامل بين جميع عناصرها".
الأستاذ الجامعي والممثل اللبناني ميشال حوراني الذي سيشارك في الفيلم العالمي "وادي المنفى". يقول رداً على سؤال حول ما إذا كانت دراما المنصات ستنجح في قلب المعادلة وفي تغيير النمط المعتمد في الدراما التلفزيونية التي تتعامل مع الوجوه نفسها والمبنية على العلاقات والمحسوبيات: "هذا الأمر تحقق في الدراما العالمية، والدراما العربية باشرت بخطوات مماثلة. مثلاً منصة "نتفليكس" عرضت أعمالاً لممثلين ليسوا معروفين في أعمال غير أميركية وصاروا فنانين عالميين. المنصات تبحث عن النص الجيد، وعن الممثلين الذين يملكون الكفاءة، والإخراج الجميل، دون الالتفات إلى الأسماء المشهورة، على عكس اللعبة التلفزيونية". ويتابع: "نحن نتجه إلى عصر مختلف، ولكن هذا لا يعني أن التلفزيون سيموت، ولكن عدوى الأعمال الجيدة ستنتقل إليه، والمنصات ستخلق نجومها، وهم سيكونون مختلفين عن نجوم التلفزيون. والقانون الذي تعتمده يمنح مزيداً من الفرص للممثل الحقيقي والمحترف والموهوب، لأنه يقدم دراما يتم تنفيذها بناءً على المعايير الفنية والكاستينغ"، وليس لاعتبارات أخرى".
اختلاف في النظرة
وبين دراما المنصات والدراما التلفزيونية، أوضح حوراني أنه لا يفضل إحداهما على الأخرى، بل هو سيوجد في كليهما، موضحاً: "الوجود في الثانية هدفه إرضاء للمشاهد العربي، كما أنني بحاجة إلى الوجود في الأولى لأنها تؤمن لي بعداً آخر. الممثل يجب أن يقبل بأي عمل يخدمه فنياً وانتشاراً ويضيف إلى خبرته، بعيداً من التصنيفات، فهو يمكن أن يحقق الانتشار من خلال عمل ما على حساب الدور، والعكس صحيح أيضاً".
ويلفت حوراني إلى أن ما تقدمه دراما المنصات بدأ ينعكس على الدراما التلفزيونية، لأن ذوق الجمهور تغير، ويضيف: "جمهور المنصات يجد في الدراما التي تقدم عبرها، أعمالاً محبوكة، نصاً وإخراجاً وأداء وتقنيات، لذا لا يمكن أن تقدم له مادة درامية تلفزيونية بسيطة وسخيفة ودون المستوى مقارنة بأعمال المنصات. حكماً، دراما المنصات رفعت الذوق العام فنياً، علماً بأنه يمكن أن يعاد عرضها على الشاشات، وهي كرست نمطاً جديداً غير في مفهوم الكتابة والإخراج والتمثيل. مع المنصات نحن دخلنا عصراً جديداً، ولا شك أنه سينعكس إيجاباً على الدراما بشكل عام".
الناقد الفني المصري طارق الشناوي اعتبر أن المنصات تعتمد قانوناً آخر في التسويق يختلف عن ذلك المعتمد في الفضائيات، مضيفاً: "المقصود هنا، الأعمال التي تنتج مباشرة للمنصات، وليس تلك التي تعرض عليها فحسب، لأن أعمالها تقدم طبقاً لقوانينها الخاصة، ويمكن أن تحقق قدراً من التوازن للعملية الفنية. هكذا لا يكون اسم النجم الممثل هو القوة الضاربة التي يتم على أساسها إنتاج العمل الفني. فيعود الوضع كما كان عليه سابقاً، حين كان الكاتب والمخرج من أصحاب القرار. الدراما التلفزيونية تقدم حالياً وفق الهرم المقلوب، ولكن بفضل المنصات، بدأ يستعيد الهرم اعتداله، بحيث يدير المخرج والكاتب العملية الفنية ويرشحان من يجدانه مناسب لبطولة العمل الفني"
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من ناحية أخرى، يرى الشناوي أن الفن يرتبط بالصراع بين المخرج والموزع والنجم والمنتج، وهو سيظل قائماً مع أن المخرج هو من يفترض به ان يمسك زمام الأمور. ويوضح: "مثلاً، يعرف عن عادل إمام سيطرته على العمل في المسرح والسينما والتلفزيون، وكلمته هي العليا، ولكن عندما قدم سلسلة أفلامه "المنسي" و"الإرهاب والكباب" و"اللعب مع الكباب" و"النوم في العسل" و"طيور الظلام" كان هناك توازن بينه، بكونه النجم والمسيطر، وبين وحيد حامد بكونه كاتباً وصاحب وجهة نظر ويجب تحقيقها، وبين شريف عرفة لأن لديه هو أيضاً رؤيته الإخراجية".
وأكد الشناوي أن المنصات بدأت تلهتم جزءاً من "التورتة" الإنتاجية في مصر، من خلال زيادة عدد متابعيها. وأضاف، "هذا أمر بدأ بشكل واضح في الموسم الرمضاني الماضي، وهذه النسبة ستزيد خلال الفترة المقبلة، ولكن ليس إلى درجة السيطرة على الحياة الفنية. ولا شك أن وجود منافذ جديدة للتوزيع والإنتاج، يصب في مصلحة المنتج نفسه، لأن التنافس يخلق إبداعاً أكبر".