للنفس هزيمتان، إحداهما تبصرها العين والأخرى لا يُسمع دويها إلا داخل الروح، والذاكرة تنوء بكثير من هذه وتلك. هزائم يختزنها التاريخ وإن ولت الأزمنة التي شهدتها، ليستعيدها الأدب مرة أخرى، كما فعلت الكاتبة المصرية ريم بسيوني، التي اختارت الحقبة المملوكية وحقبة حكم أسرة محمد علي لمصر خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لتكونا فضاءً لأحداث روايتها "سبيل الغارق – الطريق والبحر" (دار نهضة مصر) التي ترصد –عبرها- بعين الأدب، انكسارات الماضي، وتعيد إنتاجها في نسيج حاكته بخيوط من الرومانسية والفانتازيا والفلسفة والصوفية والتاريخ.
تستهل الكاتبة أحداث روايتها بإحدى الحكايات الشعبية الأشهر في الموروث الشفهي، وهي "حكاية الشاطر حسن وست الحسن والجمال". لكن الشاطر حسن في "سبيل الغارق" لا يشبه ذلك الشاطر في حكايات الجدات، ولا يستحق ما ناله من التعاطف. فقد استعادت بسيوني بشريته، وأبرزت خطيئته، حين أقدم على قتل اليمامتين لينال ابنة السلطان، التي أعلن أبوها أن من يشفي داءها يفوز بالزواج منها. وكان شفاؤها (كما سمع الشاطر من اليمامتين) في كبد يمامة وقونصة الأخرى. هكذا حلت اللعنة على حسن، الذي سلك سبيلاً مألوفاً للفوز بابنة السلطان عبر قتل اليمامتين، بينما كان عليه أن يجازف، وأن يختار من الطرق غير المألوف منها للوصول.
قسوة الانكسار
تتوارى العجائبية التي استهلت بها الكاتبة نسيجها لتفسح للواقعية مجالاً يمتزج خلاله الحقيقي بالمتخيل. ثم تعاود الظهور في غير موضع من النسيج. فاللعنة التي حلت على حسن "أحد الشخوص المحورية في النص"، أصابت روحه التي هامت وحلت عائدة في أجساد ثلاثة، تفصل بينها عصور متباعدة. لكن الروح تجرعت في كل عودة كثيراً من مرارة الهزيمة وقسوة الانكسارات. فبعدما فني الجسد الأول الذي زهد ابنة السلطان وهجرها، حلت روحه مرة أخرى في جسد المجذوب الذي عاش أيام السلطان الغوري، ولم ينل الأميرة "بلسم" ابنة السلطان. وحلت مرة ثالثة في جسد الخادم صاحب البشرة السوداء، الذي فتنته "جليلة هانم" أول امرأة مصرية تدخل المدرسة السيوفية، تلك التي أنشأتها الأميرة جشم آفت هانم زوجة الخديوي إسماعيل، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
تتدفق الأحداث في نسق زمني أفقي متتابع. تتخلله قفزات زمنية، وبعض ومضات التذكر عبر تقنية الرسائل. وتتقاطع فضاءات السرد، التي انقسمت بين زمنين هما زمن السلطان الغوري وزمن الخديوي إسماعيل، في قاسم مشترك من الهزيمة. تجلت صورة منها كنتيجة لصراع خارجي، مرة أسفر عن هزيمة جيش المماليك في موقعة ديو البحرية أمام البرتغاليين، بعد أن سعوا للسيطرة على طرق التجارة عبر رأس الرجاء الصالح. وإنهاء سيطرة مصر التي أتاحها موقعها ودامت لها لقرون. ومرة أخرى أسفر عن هزيمة عرابي خلال القرن التاسع عشر. لينتهي كفاحه من أجل أن تكون مصر للمصريين، بضرب الأسطول البريطاني للإسكندرية. واحتلال الإنجليز مصر عام 1882.
أما الصورة الثانية للهزيمة، فكانت ثمرة صراع داخلي، تصدعت نتيجته جدران الروح. وهو ما حدث للشخوص الثلاثة الذين حملوا الاسم نفسه "حسن"، والروح نفسها، خلال صراعها وشتاتها بين رغباتها وأقدارها. وعانت جميعها تفرق السبل وضياع الطريق.
بين الحقيقي والمتخيل
تتسم كتابات ريم بسيوني التاريخية بامتزاج المتخيل والحقيقي حد التماهي. ويتسلل الخطاب المعرفي داخلها في انسيابية متقنة، تشي بحرفية الكاتبة وقدرتها على جدل المعرفة في النص، كجزء أصيل منه لا يستقيم دونه. هكذا تسنى لها أن تجعل المتخيل والحقيقي في خدمة أحدهما الآخر. فالأحداث المتخيلة التي وقعت بين جليلة المتعلمة وخادمها "حسن الأمي"، وتلك التي وقعت بين جليلة وأقاربها وجيرانها، جاءت في خدمة توثيق واقع اجتماعي حقيقي،عانى من سطوة الطبقية في تلك الحقبة. وتوثق أيضاً نظرة المجتمع السلبية لتعليم البنات، وكفاح المرأة للحصول على حقوقها في التعليم والعمل، وما عانته من صور من القهر والتمييز، لا سيما وأن جليلة كانت شخصية حقيقية. وتعد واحدة من أوائل الملتحقات بالمدرسة السيوفية للبنات، في عهد الخديوي إسماعيل.
"من هذا الأب الذي سيسمح لابنته بالخروج كل يوم للذهاب إلى مدرسة والاختلاط بأناس غرباء؟! ومن سيتزوج بنتاً تخرج وتتكلم وتجادل؟! يا إلهي! لو تقدم رجل لامرأة وعرف أنها تعرف أكثر منه وستجادله وتعذبه، تُرى أسيتزوجها؟" ص 24.
هناك عديد من الأحداث والشخوص الحقيقية الأخرى، التي استعانت بها الكاتبة في بنائها. منها شخصية حسين الكردي، القائد المملوكي الذي قاد الحرب ضد البرتغاليين، لاستعادة السيطرة المصرية على البحر وطرق التجارة، في عهد السلطان المملوكي قنصوة الغوري. فكانت الهزيمة التي أدت إلى انتهاء السطوة المصرية على منافذ التجارة. وبداية التدخلات الغربية في المنطقة العربية، التي توالت حتى الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882، بعد قصف مدينة الإسكندرية.
وخلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، وهو الفضاء الزمني الثاني الذي دارت فيه أحداث الرواية، ورصدت الكاتبة عبره لحظة زمنية فارقة، شهدت أحداثاً تاريخية كبيرة، منها هزيمة أحمد عرابي زعيم الثورة العرابية، وانقسام المصريين بين تأييده وتأييد الخديوي إسماعيل، ونفي الخديوي وتولي ابنه "الخديوي توفيق" الحكم، والامتيازات الأجنبية والديون المصرية لبريطانيا وتدخلاتها في القطر المصري، وهي حقبة (على الرغم من زخمها وثرائها) قليلة الحضور في السرد الأدبي.
النزوع الصوفي والفلسفي
غلفت الكاتبة بناءها السردي بطبقات من الفلسفة والصوفية والرومانسية العذبة أيضاً. فأبرزت حضوراً لافتاً لرموز فلسفية، كالشيخ محمد عبده ونظريته في الحرية، وأتقنت توظيفها في سياق السرد، ومنحت حضوراً آخرللشيخ الغزالي، ووظفت رؤاه وبعض مقولاته داخل النسيج. وهذا ما دعم الطابع الفلسفي للسرد و أبرز في وقت واحد نزوعاً إلى الحكمية واستخلاص العِبر. واعتمدت بسيوني تقنية التكرار لأقوال الشيخ الغزالي، لتحقق غايتها في تأكيد مغزاها الصوفي والفلسفي، واستخدمت التقنية ذاتها لتمرير مفارقات اجتماعية بعينها. وهو ما بدا في تكرار عبارة "مصر للمصريين" التي أطلقها عرابي ورددها الناس، اعتراضاً على الامتيازات الأجنبية، فأدت إلى مفارقة دخول الغزاة واحتكار الإنجليز خيرات البلاد وبحارها وموانيها، حد أن بريطانيا لم تسمح لأصحاب الأرض بالانتفاع من محصول القطن، إلا في حدود تجارتهم الداخلية. وحظرت عليهم تصدير أقطانهم أو تصنيعها ومنحت للأجانب فقط حق تصديرها. وإلى جانب اللمحات الصوفية والفلسفية، أضفت الكاتبة على نسيجها مسحة من الرومانسية العذبة، عبر قصة الحب التي نشأت بين الخادم وسيدته، والتي يشي الفارق الاجتماعي بين طرفيها بقدر من التعقيد والارتباك، والخروج على النواميس الوضعية، التي تقضي بأن اقترافها جرم يستوجب أقسى العقاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتقاطع حب كل من الخادم والمجذوب والشاطر حسن (عبر الفضاءات المختلفة للسرد) في شقاء المحب واستحالة ومشقة الوصول، بما يتسق مع الفكرة التي نهض عليها العمل، وهي اللعنة التي حلت على روح الشاطر حسن، ورافقتها في كل جسد آلت إليه. وكانت اللغة إحدى أدوات الكاتبة في إبراز الخطوط المتداخلة للسرد، فقد احتوت من الصور والدلالات ما يعزز البناء ويتسق مع شخوصه، وغاياته الفلسفية والاجتماعية والتاريخية. غير أن لغة حسن الخادم جاءت بعيدة عن مقتضى الحال، فبدت شديدة البلاغة والحكمة في ما لا يتسق مع طبيعة الخادم الأمي، الذي لم يحظَ بأي قدر من التعليم. وكان ذلك مقصوداً ومتسقاً مع الاستهلال العجائبي بحكاية الشاطر حسن. فالخادم لا ينطق بلسان حاله، وإنما بما يوحى إليه من روح هامت بأجساد أخرى، قبل أن تصل إليه، وتشربت من التجارب، وتجرعت من الانكسارات والانتصارات، ما يؤهلها لهذه الحكمة وتلك البلاغة.
يحظى المكان بحضور خاص داخل الرواية، متعدياً صدارته كعنوان لها. ويخلق احتفاء الكاتبة به حالة من الشغف لدى قارئها، ورغبة في وطئه واكتشاف ذاك السبيل الذي اندثرت معالمه. وكذلك شجرة مريم العذراء بالمطرية وقصور مدينة الإسماعيلية، وربما يتجاوز الأثر حدود الشغف إلى الألم لما حل ببعض الأماكن التي تناولها السرد. فقد سربت الكاتبة أثراً آنياً لقصف مدينة الإسكندرية،الذي وقع عام 1882، فبدا كما لو كان الأسطول البريطاني عاد ليقصفها الآن من جديد.