Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المعتزلة فكر وفلسفة (الحلقة الرابعة)

العقل هو المحك الوحيد في ضبط أي مسألة أو قضية أو مشكلة حتى لو كان ذلك في منهج السلف أنفسهم

إن الطفل يجب أن يعرف الله بالعقل قبل ورود الشرع إذا أكمل عقله (أ ف ب)

في الحلقة الماضية، سردنا بلوغ المعتزلة لتأسيس المذهب على يد واصل بن عطاء، وتناولنا الأصول الخمسة التي يرتكز عليها مذهبهم، وهي التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتطور رؤية المعتزلة فكرياً وفلسفياً في مشكلات العقل والحرية والعدل الاجتماعي، ومفهومهم في الإلهيات.

العمق المعتزلي

على الرغم من أهمية الذين بلوروا أفكار المعتزلة من الجُهني وابن درهم والدمشقي وابن صفوان، إلا أن ابن عطاء شيد منهجاً جديداً في علم الكلام، خصوصاً في مسألة "المنزلة بين المنزلتين". مع ذلك، لم يكن موافقاً إجماع علماء المسلمين. وهذا ما دفع بأبي الحسن الأشعري (270-324هـ/ 873-935 م)، أن يرد عليه ويترك الاعتزال قائلاً "فخرق واصل إجماع الأمة وقال إن مرتكب الكبيرة لا كافر ولا مؤمن". بيد أن هذا الموقف الوسطي لاقى في ما بعد قبولاً كونه جاء كرد فعل تجاه موقف الخوارج المتشدد، وموقف المرجئة المرن. كما أن السلطة الأموية، ومن ثم العباسية، قد استغلت موقف المعتزلة في هذا الأمر استغلالاً سياسياً. إذ نظرت إلى رد المعتزلة على الخوارج رداً فقهياً يساعد على دحض حركة الخوارج. وهكذا انتشر المذهب المعتزلي، لا سيما في العصر العباسي الثاني، إذ أصبح المذهب الرسمي للدولة، وأن الخليفة المأمون (198-218 هـ/ 813-833م) نفسه كان معتزلي الفكر والعقيدة.

إن مسالة المنزلة بين المنزلتين قد استخدمها ابن عطاء في الأمور والأحداث الحساسة والخطرة، منها رأيه في "معركة الجمل" إذ يقول إن "مَثلُ علي ومن خالفه مثل المتلاعنين لا يدري؟ من الصادق منهما ومن الكاذب". وهدف هذا القول هو تحفيز المسلم لمنح الأولوية إلى العقل في إطلاق الأحكام سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية. لذلك، كان عمرو بن عبيد (144هـ/766م)، القطب الثاني بعد واصل، يرد على من يتخذ بعض النصوص القرآنية مرجعاً في إثبات القدر قائلاً "لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أجبته، ولو سمعت عبدالله بن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله يقول هذا لردته، ولو سمعت الله تعالى يقول هذا لقلت له ليس على هذا أخذت ميثاقنا" (المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، ج 8، ص 58).

في الحقيقة، إن موقف المعتزلة لم يكن كرد فعل على الخوارج والمرجئة فحسب، بل كذلك لتنقية العقل الإسلامي من الحشو والإدغام العالق فيه، خصوصاً أن أهل السلف الصالح تقبلوا هذا الحشو من الإسرائيليات، وغيرها من دون أي تمحيص وتدقيق. وبذلك أصبح هذا الحشو يعارض العقل ويعيقه في عملية التفكير. إن العقل، بالنسبة إلى المعتزلة، هو المحك الوحيد في ضبط أي مسألة أو قضية أو مشكلة، حتى لو كان ذلك في منهج السلف أنفسهم، كونهم قد تمسكوا بالظاهر من النصوص. وهكذا رفع المعتزلة شعار "العقل قبل النقل" في مباحثهم ومجادلاتهم الفكرية والكلامية. فالإنسان بمحض عقله يعرف الله ويميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، من دون أن يرجع إلى الشريعة، بل بالعقل تكون معرفة الشرائع، وبه يكون الحكم عليها. وهذا التقديس والتمجيد للعقل جعلهم رواد النزعة العقلية في الإسلام، وهم الذين زجوا علم الكلام في الفلسفة فأصبحوا فلاسفة الإسلام الإلهيين. إن نزعتهم العقلية تجلت أيضاً في أصول الفقه، فقد أثبت فقهاؤهم المتفلسفون أن العقل حاكم شرعي، وصنفوا الأحكام الشرعية العملية وفق مبدأ أن الحسن والقبح عقليان.

معنى ذلك أن الحسن عندهم حسن لا لأن الشرع قد أمر به، بل لأن الحسن وصف ذاتي فيه، والقبيح ليس قبيحاً لأن الشرع قد نهى عنه، بل القبح وصف ذاتي فيه. فهم يقولون إن العقل إنما يُستدل به على حسن الأفعال وقبحها، على معنى أنه يجب على الله الثواب والثناء على الفعل الحسن، ويجب عليه الملام والعقاب على الفعل القبيح، ولا يسعه غير ذلك. والسبب في هذا، أن الأفعال عندهم على صفة نفسية من الحسن والقبح، فإذا ورد الشرع بها كان مخبراً عنها لا مثبتاً لها. (نهاية الإقدام في علم الكلام، ص 371).

وعلى الرغم من هذا التفاني بقدرات العقل، فإن أبا هذيل العلاف يرى أنه يجب على المكلف أن يعرف الله بالدليل وليس بمحض العقل، فإن قصر في هذه المعرفة استوجب العقوبة، لأنه قادر على التمييز بين حسن الحسن وقبح القبيح. لذلك، يجب عليه الإقدام على الحسن مثل الصدق والعدل والابتعاد عن القبيح مثل الكذب والجور وغير ذلك. (الملل والنحل، ج 1، ص 52).

بلا شك، لعب العلاف دوراً كبيراً في إدخال الفلسفة على مسائل الفكر المعتزلي، لا سيما في نفي الصفات الإلهية، وطبيعة الجسم الذي يتكون من الذرة. أما إبراهيم النظَام فيرى أن القدرة العقلية هي المسلك في تحصيل الإيمان والمعرفة، فالذي يتفكر قبل ورود السمع إذا كان عاقلاً متمكناً من النظر، يجب عليه تحصيل معرفة الله بالنظر والاستدلال. وكذلك نص النظّام على أن العقل يوجب ما في الأشياء من صلاح وفساد، فالعقل "يفعل هذا قبل أن ينزل الوحي". معنى ذلك أن المعتزلة ترفض بشدة التقليد سواء كان مسموعاً أو مقروءاً أو متعارفاً عليه بين الناس. ومن هنا، يقول النظَام بصراحة ناقدة أن "دين الناس بالتقليد لا بالنظر والبحث والاستدلال". وهو بذلك يرمي إلى إيقاظهم ولفت انتباههم إلى أهمية الإدراك العقلي. وإذا قال النظّام بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف فيه من أفعال، فإنه يشير أيضاً إلى وجود خاطرين للعقل: أحدهما يأمر بالإقدام والآخر بالنهي ليصح الاختيار. (المصدر السابق، ص 58).

وعلى هذا الأساس العقلي جابه النظَام الانحرافات والأباطيل العالقة في أذهان المجتمع الإسلامي. إذ يقدم الدليل العقلي والتفسير الواقعي لإثبات توهم الناس، منها رؤية الجن مثالاً، فوفق تصوره إن "أصل هذا الأمر وابتداءه أن القوم لما نزلوا بلاد الوحش عملت فيهم الوحشة، ومن أنفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء... والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمنى وبالتفكير، والفكر ربما كان من أسباب الوحشة".

إلا أن النظَام كان شكاكاً في كثير من الروايات والأسانيد التي تعنى بالحديث الشريف، كما كان كثير الظن في عموم المسائل والقضايا. وهذا ما عاب عليه تلميذه الجاحظ (159-255 هـ/ 776-869 م) الذي نص بدوره على "المعرفة بالطبع". وهذا النوع من المعرفة يقلل من شأن الرُسل والأنبياء في توعية البشر وتعريفهم بالله. فالإنسان بطبعه أو وفقاً للمعارف الضرورية يعرف الله، الخير والشر، الحق والباطل... إلخ. مما دفع ببعض المعتزلة إلى أن يردوا عليه، وعلى رأسهم أبو علي الجبائي وأبو القاسم البلخي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما شيخ معتزلة بغداد وهو بشر بن معتمر (210هـ/ 812م) فقد أيد القول بأن معرفة الله تكون بمحض العقل، ويشير في ذلك قائلاً إن "المفكر قبل ورود السمع يعلم الباري تعالى بالنظر والاستدلال". وسار على هذا النحو ثمامة  بن أشرس (توفي 213هـ/815م)، لكنه يرى أن "المعارف كلها ضرورية"، وأن كمال العقل هو شرط معرفة الله بغض النظر عن العمر. إذ بحسب رأيه، أن الطفل يجب أن يعرف الله بأرائه بالعقل قبل ورود الشرع إذا أكمل عقله، وأن قصر في تلك المعرفة كان كافراً مستحقاً للخلود في النار، لأن الله لا يكلف الإنسان حتى يتكامل عقله، ويكون مع تكامل عقله قوياً على اكتساب العلم بالله.

وكذلك كان موقف جعفر بن حرب الثقفي (توفي 234هـ/856م)، وجعفر بن مبشر الهمذاني (توفي 263هـ/ 885م)، إذ يؤكدان أن "العقل يوجب معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع"، فإن قصر العقل بذلك ولم يعرف الله تعالى ويشكره، عاقبه عقوبة دائمة. واستناداً إلى هذا المبدأ أثبت الجعفران أن التخليد يكون واجباً بالعقل.

أن التخليد بالعقل وفقاً للمعارف الضرورية، يعني أن المعارف المكتسبة من الدين حول تعريف الناس بوجود الله، تكون أدنى مستوى من العقل، كونه يقوم بهذه المعرفة بالضرورة ومن دون كسب.

وبعد الجعفرين كان هناك الجبائيان وهما أبو علي الجبائي (توفي 295هـ/ 917م)، وأبنه أبو هاشم الجبائي (توفي 321هـ/ 943م)، اللذان شددا على سلطة العقل من ناحية، وأثبات شرع العقل إلى شرع النبوة من ناحية أخرى. ولهذا يقول عنهما المعتزلي الشهرستاني إن كل من الأب والابن قد "اتفقا على أن المعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبيح واجبات عقلية. وأثبتا شريعة عقلية وردا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل ولا يهتدي إليها فكر، وبمقتضى العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي، إلا أن التأقيت والتخليد فيه يعرف بالسمع". (المصدر السابق، ص 81).

هؤلاء هم جهابذة المعتزلة ومذهبهم الفلسفي الذي عظموا فيه العقل أيما تعظيم، ولكن مهما ابتعدوا في بعض مواقفهم عن أصول الشريعة الدينية، فإن الفضل يعود إليهم بشكل كبير في أرساء أُسس التفكير العقلاني، والتي مهدت السبيل لظهور فلاسفة مستقلين بنمط تفكيرهم ومنهجهم العقلي، وأولهم هو أبو أسحاق يعقوب الكندي (175-256هـ/ 800-873م)، الذي كان معتزلياً ثم استقل بنظامه الفلسفي.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء