أثبتت تقنية التشفير المتسلسل المعروفة بإسم "بلوك تشين" Block Chain، قدرتها على تبديل قواعد اللعبة في أسواق المال، بل هزّت أركانها هزّاً عنيفاً. وحاضراً، تستعد تلك التقنية لاجتياح قطاع الرعاية الصحيّة. في أبسط وصف لها، تمثّل "بلوك تشين" قاعدة بيانات شبكيّة عالميّة مفتوحة، ما يعني أن كل شخص على الكرّة الأرضيّة، يستطيع استعمال الإنترنت كي يستخدم تلك التقنية، في كل زمان ومن كل مكان. تعتمد تقنية "بلوك تشين" مبدأ اللامركزيّة في المعلومات والبيانات فتجعلها قابلة لأن توضع وتتحرك على شبكات من حواسيب شخصيّة، من دون وجود سيطرة مركزيّة على عملياتها. وتضمن تلك اللامركزيّة أيضاً وضع تقنية الـ"بلوك تشين" في أيدي ملايين المستخدمين، ما يعطيها قوّة تتصاعد باستمرار. إذ يجري تكوين سجّلات للمعلومات ثم تربط سويّة كي تشكّل كتلاً متراصة (من هنا جاءت التسمية، لأن "بلوك" تعني كتلة أو مجموعة متراصة)، وتكون مترابطة فيما بينها، وكذلك يمكن ربطها بواسطة صلات إلكترونيّة، إلى كتل اخرى مجاورة. وعلى ذلك النحو، تصبح كل كتلة مكوّنة من مئات أو آلاف أو حتى ملايين البيانات المترابطة بعضها بعضاً، والمنتشرة على مجموعات مليونيّة من الحواسيب الشخصيّة. ومن ناحية اخرى، لا يملك أي شخص بعينه تلك الكتل، ولا يستطيع شخص بمفرده تغييرها، بل يكتفي كل شخص بمشاهدتها والتقاطها والإضافة إليها.
وعلى الرغم من أن تقنية "بلوك تشين" ارتبطت بعملة "بتكوين" الرقميّة، وذاع صيتها كأداة رقميّة في الأسواق الماليّة، ألا أن تلك التقنية نُقِلَتْ بنجاح إلى مجموعة من القطاعات والصناعات والأعمال، بل حقّقت فيها نجاحات كبيرة. وطرح ذلك تحدياً على عالم الرعاية الصحيّة الذي صار مهتماً بالبحث عن فرص لاستعمال تقنية "بلوك تشين" والاستفادة منها.
في الكلمات التالية، أعرض وجهة نظري عن أربعة طرق في يستطيع قطاع الرعاية الصحيّة أن يحقّق بواسطتها نجاحاً في استخدام تقنية "بلوك تشين". وكذلك أعتقد أن عدم الحاجة إلى إدارة مركزيّة هو أهم ما سيعطي "بلوك تشين" القدرة على إحداث ثورة في الرعاية الصحيّة. لماذا؟ لأن انتقاء الحاجة إلى إدارة مركزيّة، تجعل كل شخص قادراً على السيطرة على المعلومات والتبادلات المتعلقة به. ولأن قطاع الرعاية الصحيّة يتعامل مع معلومات سريّة وتتطلّب أيضاً سرعة في الوصول إليها، تستطيع تقنية "بلوك تشين" تأمين سريان تلك المعلومات ومناقلتها ومشاركتها، بطريقة مأمونة تماماً. بقول مختصر، تؤمّن "بلوك تشين" الحفاظ على خصوصيّة المعلومات، وسرية الوصول إليها، إضافة إلى صلاحيتها في التطبيق على أعداد من الأشخاص مهما تزايدت أعدادهم.
واستطراداً، يمكن وصف "بلوك تشين" بأنّها تقنية تغييريّة تماماً بالنسبة لقطاع الرعاية الصحيّة، لكنها لن تكون علاجاً شافياً لكل العلل التي تشكو منها إدارة البيانات فيه. بالأحرى، سيكون الأمر شبيهاً برحلة تتطوّر مرحلة تلو الاخرى، في مختلف الحقول التي تُطبق فيها تقنية "بلوك تشين".
1. سجلاّت المرضى
مع مرور الزمن، تصبح ملفات المرضى مشتملة على نوبات المرض والسجلات المتعلقة بالأمراض، ونتائج الفحوص المخبريّة، والعلاجات المختلفة، وهي أمور تقدر "بلوك تشين" على إدارتها بكفاءة، كما تقدر على أن تضيف إليها فترات العلاج داخل المستشفيات والعيادات الخارجية وغيرها. كذلك تستطيع أن تضيف إلى كل تلك الملفات، البيانات المتأتية من الأجهزة التقنية القابلة للإرتداء والتي تقيس مؤشرات صحيّة متنوعة، على غرار سوار "فت بت". ويستفيد مقدمو خدمات الرعاية الصحيّة من تجميع تلك المعلومات، في استنباط طرق أفصل لتقديم العناية اللازمة للمرضى.
2. فهرسة المرضى
من المشاكل الشائعة في بيانات الرعاية الصحيّة، قضايا تكرار المعلومات أو عدم تطابق الملفات، كأن يحضر ملف ليس للمريض المطلوب تقديم رعاية له في لحظة معيّنة. يضاف إلى ذلك أنّ ملفات الطوارئ تتبع أساليب مختلفة في تدوينها واسترجاعها، كلما تغيير المجال الذي ترتبط فيه، كأن يدخل المريض في حال طوارئ جراحية في مستشفى ما، وبعد فترة يدخل في حال طارئة لمرض في القلب أو الرئة في مستشفى اخر. وتعطي تقنية "بلوك تشين" طرقاً مختلفة في إدخال المعلومات واسترجاعها، في كل مرّة يجري استخدامها فيها. واستطراداً، تتجمع تلك المعلومات في دفتر واحد، ولا يقتصر تبويبها على إسنادها إلى إسم (أو رقم) بعينه، يشير بالطبع إلى المريض نفسه. ويستطيع من يبحث عن المعلومات بتلك التقنية أن يحصل على عناوين مختلفة، ومفاتيح مختلفة لأنواع المعلومات، لكنها تكون موحدة عبر تعريف موحّد يتصل بشخص المريض.
3. التأمين الصحي
ترتكز تقنية "بلوك تشين" على تأكيد هوية المستخدم في كل عملية استعمال للمعلومات، وبذا تكون قيّمَةً تماماً في جعل عملية التثبت من الهوية في التأمين الصحي تجري بطريقة أوتوماتيكية تلقائيّة، ما يعطي ضماناً في أمن المعلومات عند التوافق بين أطراف التعاقد عبر الشبكات الإلكترونيّة. وكذلك يؤدي غياب الحاجة إلى إدارة مركزيّة، إلى تقليل الأخطاء والتحايل والتزوير أيضاً.
4. إدارة سلسلة الإمدادات
من المجالات التي تحتاج إلى الاستفادة من تقنية "بلوك تشين"، هي تتبع الأدوية بهدف منع وصول أدوية مزوّرة إلى مشترين قد يكونوا على غير دراية بها. وإضافة إلى إدارة إمدادات الأدوية، تستطيع العقود المؤمنة بتقنية "بلوك تشين" أن تسهم في مساعدة مؤسّسات الرعاية الصحيّة، في تتبع دوائر العرض والطلب على مدار مدّة صلاحية الأدوية وعقودها، ورصد كيفيّة إجراء التبادّلات، وتأمين تنفيذ العقود في أوقاتها أو التأخّر في ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يضاف إلى تلك المناحي كلها، تقدّر تقنية "بلوك تشين" على تبديل إدارة المداخيل ومساراتها، والتجارب السريريّة ومنع التزوير والاحتيال.
تعتمد إمكانية الاستفادة من "بلوك تشين" في قطاع الرعاية الصحيّة، على مدى رغبة مؤسسات الرعاية الصحي في إرساء بنية تحتية تقنية ملائمة لها. ولا يغيب عن البال أن تقنية "بلوك تشين" مُكلفة، وهناك قلق وشكوك في إمكانية تكاملها مع التقنيّات المستخدمة حاضراً، إضافة بالطبع إلى أفكار متفاوتة بشأن البُعد الثقافي المتصل مع تبني تلك التقنية.
ثمة شيء مؤكّد هو أن تقنية "بلوك تشين" ستجتاح قطاع الرعاية الصحيّة خلال سنوات قليلة قادمة، وكذلك من المؤكّد وجود استثمارات متنوّعة فيها. ومع إمكانيات واسعة الآفاق، ليس مفاجئاً أن تبدو "بلوك تشين" على وشك الدخول إلى قطاعات أساسيّة في العالم الرقمي. وكذلك قد تغيّر ذات يوم، المشهدية الواسعة لعصر البيانات الضخمة.