تناولنا في الحلقة الماضية الدور المهم الذي لعبه وليم جيمس في تمتين مذهب الذرائع، بعد ما منحه بعداً اجتماعياً ودينياً، فالإيمان إيجابي والإلحاد سلبي، والإنسان يميل إلى الفكرة التي تبث فيه الطمأنينة، وأن المنفعة يجب أن تشمل أكبر كمية في المجتمع.
جون ديوي (1859-1950)
إن التغيير الفعال الذي أحدثه القطب الثالث في مذهب الذرائع جون ديوي، زاد من تقوية عصب هذه الفلسفة، خصوصاً في تركيزه على إرساء الاسم من براغماتية إلى ذرائعية، وتبيان ما فات على جيمس في مسألة تماثل صدقية الفكرة أو تطبيقها على أرض الواقع، لا سيما في الجانبين العلمي والسياسي، إذ على الرغم من أن كل ما نقوم به في حياتنا، ما هو إلا أدوات نتذرع بها من جهة، ومن جهة أخرى، يكون بدافع سلوكنا الحياتي ليس إلا. ولكن بالنسبة إلى مدى صحة هذا التفكير الذي نتذرع به، فإنه يُقاس بالإيجاب أو بالسلب وفقاً لمدى تحقيق النجاح اللازم له. أما سبب نشؤ هذه الفكرة، فبحسب قول ديوي، فإنها ناتجة بالضرورة، إذ إن العقل يخلقها بصورة تدريجية. بمعنى أن الفكرة ليس لها وجود فعلي مستقل، بل ناتجة من العقل. وهذا معناه، أن مسألة وجود الله حقيقة كانت أم لا، فجواب ديوي، بأن هذا الأمر يتوقف على مدى معرفة الإنسان من خلال فائدة الناس بصورة أغلبية لهذه الحقيقة، لأنه لا توجد حقيقة مستقلة عنهم.
ويؤكد ديوي أن المعرفة الإنسانية ليس لها واقع خارجي، بل إن الواقع نصنعه نحن بوجودنا، لأن القاسم المشترك في صنع الحقيقة يكمن في قدرة الاعتقاد على امتناع سلوكنا الذي يجعلنا نتمسك بهذا الاعتقاد وذلك التكوين في صنع الحقيقة. وعليه، يرى ديوي، أن "السؤال المهم والموسع جداً والمقرر المعنى يعطي إلى كلمة "الله" على مقدار أول، يمكن أن تكون الكلمة تعني ممارسة الوجود فقط، وكذلك يمكن أن تكون على مقدار آخر تدل على وحدة كل غرض فكري، كيما تستيقظنا في الرغبة إلى السلوك المقيد الذي يتطلب منا". (ديوي: كتابات جوهرية، طبعة إنجليزية).
وفي كتابه "كيف نفكر" (1910)، طرح ديوي خمس مراحل تقودنا إلى حل أي مشكلة مهما كانت عويصة، وهي (1) الشعور بالمشكلة. (2) تعريف المشكلة وتحديدها. (3) وضع الفرضيات واقتراح الحلول. (4) التحقق من التجربة. (5) الوصول إلى النظرية والتعميم. أما في كتابه "إعادة بناء الفلسفة" (1920)، فإن ديوي يفكر في كيف ولماذا ومتى يجب أن تحفز الشؤون الإنسانية بمقاربة جديدة نحو الفلسفة. وفي باقي مؤلفاته في التربية والطبيعة وعلم النفس، والمنطق والديمقراطية، إذ يعود الفضل له في مد مذهب الذرائع بنفحة جديدة جعلته أكثر شيوعاً في الولايات المتحدة الأميركية.
على أي حال، تنص الذرائعية على أن الفكرة التي تنشأ أساساً في العقل لا تكون صادقة من حيث المبدأ، بل ولا تكون صادقة من حيث مقدار مماثلتها الحقيقة المستقلة التي لها وجودها، باعتبارها وجوداً واقعياً خارجياً، وإنما الحقيقة تكون في مقدار صدقها على ما تجابَه به من الأشياء التي تحيط بنا. وبهذا، فإذا عكسنا هذه الحقيقة على وجود الله، وفق هذا المذهب الفلسفي، نرى أن جواب وليم جيمس يكون أن "الله يحتاجنا، بقدر ما نحن نحتاجه". أما إذا جعلنا هذه الحقيقة تستمر في الحياة العملية، فإن الذرائعية تجدها تدعم العلوم الطبيعية بصفتها فلسفة تجريبية، إذ إن "الفكرة هي توجيه بالعمل بطريقة معينة" على حد قول ديوي.
ويقول ديوي أيضاً، إن "هناك سبباً واحداً، وهو لماذا أنا شخصياً أفكر به؟ فالملاءمة لاستعمال كلمة 'الله' التي تشير إلى الذي يوجد لكل من العقلي والواقعي اللذين عندهما الامتداد شفهياً. في الحقيقة، أن الملحد الرافض لوجود الله، يبدو لي لفهم شيء ما مشتركاً مع المؤمن والقوى الفوق الطبيعة– أي الله". (المصدر السابق).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا تكون الذرائعية ليست من أنصار التجريبية فحسب، بل من دعاة الشكية أيضاً، إذ تتخذ من اللاأدرية معولاً لها في زعزعة الماورائيات. وبذلك، لا تحسم الذرائعية موقفها تجاه وجود الله والروح والملائكة وكل ما يتصل بالعالم الإلهي، على الرغم من أنها تسلم بوجود العالم الماورائي، ولكن من منطلق نفساني يعكز على المعتقد الديني، إضافة إلى تفريغ الحقيقة الموضوعية من محتواها وجعلها ذاتية محضة تعتمد على الفرد بحسب قدرته الذاتية بالوعي والإدراك، وهذا ما يجعلها تتناقض في دعمها العلوم الطبيعية، كما أنها اتخذت من درجة المنفعة نسبة قياس إلى الحقيقة، وتردها إلى ذلك القياس في آن.
بمعنى ثانٍ، إن الفكر الذرائعي يعطي لكل فرد الحق في أن يتخذ أي شيء موضوعي، سواء كان هذا الموضوعي حقيقياً أو غير حقيقي، ذلك بمجرد أن ينتفع منها الإنسان وكفى. أما النسبة الصحيحة في هذه الحقيقة عن تلك، ومدى صدقها، فإنها تتوقف على مقدار فائدتها. وعليه، فإن الذرائعية التي نصبت نفسها وسيطة بين المادية والمثالية، بعد ما رأت أن كلتيهما تتفقان في المعنى وتختلفان في اللفظ فقط، فإنها لم تبت بصورة مقنعة وكافية بالموضوعات الماورائية، بل اهتمت أكثر في نتائج الخيرات الإنسانية والفائدة العائدة منها، ونظرت إلى وجود الله، في أحسن الأحوال، بأنه اعتقاد ديني نفسي لا يؤثر على سير الحياة العملية. كما أنها تجاوزت هذا الأمر، كي لا تكون المسألة مزاجية فردية، وجعلت من الاعتقاد الديني الصالح، الذي يعود على الأغلبية من البشر بالسرور والتفاؤل النفسي، أكثر صدقاً من المعتقد الذي لا يؤمن بالعالم العلوي. وكما هو واضح، هذا تجاوز سطحي لا يسبر غور المشكلة، وبالنظر إلى البحوث في الماورائيات بأنها غير مجدية عملياً، فإن الذرائعية إنما تؤكد على نفسها كونها الفلسفة العملية الاستغلالية التي تفكر في مسألة الربح والخسارة من الجانب المادي لا الروحي.
لذلك، ينص جيمس، على أن الإنسان يتحمل كل مسؤولياته ولا يتركها على عاتق "المطلق" أو الله، وإن لم يفعل ذلك، فإنه تافه ولا أخلاقي، لأن حقيقة الأمر، أن المطلق لا يفعل له شيئاً ما بالمعنى العملي. وعندما ينحصر الأمر المادي في الآلية العملية فقط، فإن جميس لا يتوانى عن القول "اللعنة على المطلق"! فبحسب رأيه، إن التفكير في الوجود وقوانينه غامض صعب لا يؤدي إلى نتيجة مقبولة، ويحددها جيمس، في أحداث البيئة المرئية فحسب، ولذلك فإن "السؤال عن الوجود هو الغامض في كل فلسفة"، وعلى الرغم من أن هذا السؤال قد يكون أو ربما يقودنا إلى خالق منظم عظيم له، لكن علينا ألا ننزلق في متاهات النزاعات بين المذاهب الماورائية، والبحث العملي في المشكلات الرئيسة، أو بما يتعارض ما بين مذهبه البراغماتي في الكثرة، ومذهب التوحيد.
وعلى هذا النمط يسير ديوي أيضاً، فالعمل هو الذي يصنع العالم، وأن "ازدراء المادة" وكذلك "تمجيد اللامادي" كلها أشياء لا يمكن أن تفسر نفسها بنفسها، بل العمل الذي يؤدَى بواسطة تطبيقات آلية في الجسد، هو صاحب اليد الطولى في هذا الواقع المادي الموضوعي. بمعنى، وفق مفهوم ديوي، أن الحقيقة النهائية تكون في نظام هذه الطبيعة الآلي، أما هل هناك عناية إلهية تحيط بهذا العالم الصارم؟ فإن ديوي لا يكترث لنوعية الجواب عليه، ويرى أن صفات الروح الإنسانية يجب عليها أن تسبر غوره، فالموقف عند ديوي، لا يهمه السؤال إن كان هناك خالق أو لا يكون، بقدر ما يهمه البحث والذكاء الخلاق في النشاط الإنساني، الذي يمكن أن يجعل الشيء أفضل وأحسن في هذا العالم. ومع إن الذرائعية لا ترى نفعاً في التفكير الماورائي يخدم الواقع الحياتي اليومي، لكن موقف ديوي أكثر مادياً من سابقيه بيرس وجيمس، فهو ملحد بلا دين.