"حتى إشعار آخر"... بهذه العبارة انتهت آخر جلسة في البرلمان العراقي، بشأن التصويت على قانون الموازنة العامة للبلاد، لتعطي انطباعاً عن حجم الخلافات الدائرة بين الكتل السياسية الرئيسة حولها، إلا أن رئاسة البرلمان عادت لتعلن موعداً جديداً لجلسة التصويت في سياق محاولات إقرارها.
ودعا رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، الثلاثاء 30 مارس (آذار)، أعضاء البرلمان، إلى "الحضور يوم الأربعاء الساعة 1 ظهراً لعقد جلسة التصويت على قانون الموازنة"، منوهاً إلى أنه "سيتم نشر أسماء الحضور والغياب على الرأي العام".
وأشار الحلبوسي إلى أن جدول أعمال جلسة يوم الأربعاء، سيتضمن "عرض الطلب المقدم من القوى السياسية، والمؤيد بتوقيع أكثر من 172 نائباً للتصويت على حل مجلس النواب العراقي بدورته الرابعة".
وعلى الرغم من دعوة رئيس البرلمان تلك، إلا أن أي تسريبات لم يظهر فيها ما يتعلق بالنقاط الخلافية الرئيسة، التي يبدو أنها ما زالت غير محسومة، بعد نحو أربعة أشهر على قيام الحكومة العراقية بإرسالها إلى البرلمان.
وكانت حصة إقليم كردستان العنوان الأبرز للخلافات خلال الأشهر الماضية، إلا أن تلك الخلافات سرعان ما تشعبت لتشمل عديداً من البنود الأخرى، وعلى رأسها تغيير سعر صرف الدولار، خصوصاً بعد تسريبات عن توصل الأطراف المختلفة إلى اتفاقات حول حصة الإقليم.
محاولات لـ"إفشال الكاظمي"
ويذهب مراقبون إلى ما هو أبعد من الخلافات المعلنة بين الكتل، إلى الحديث عن أن السر خلف تعطيل الموازنة، يتمثل في محاولات بعض الكتل السياسية تعطيل إمكانية أن تسهم الموازنة في تحريك مشاريع تمس حاجة المواطنين، التي قد تؤثر إلى حد ما في رفع حظوظ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في الانتخابات المقبلة.
ويرى الصحافي العراقي مصطفى ناصر، أن "للانتخابات المقبلة الدور الأكبر في تحفيز عديد من الكتل السياسية لتعطيل إمرار الموازنة العامة لأطول فترة ممكنة"، مبيناً أن المخاوف الرئيسة تتمثل في "محاولات منع منح حكومة الكاظمي أي منجزات ربما يوفرها إقرار الموازنة بشكل مبكر".
ويلفت ناصر إلى أن "الكتل السياسية لا تريد إمرار الموازنة لأنها تعتقد بأنها ستخدم الأطراف التي يدعمها الكاظمي وتزيد من رصيدها الانتخابي"، مبيناً أن تلك الكتل "لا تود إعطاء أي جرعة نجاح للحكومة الحالية".
ولعل ما يؤكد أن الغاية الرئيسة تتلخص في محاولات "إفشال الكاظمي"، بحسب ناصر، "تشعّب مطالب الكتل الرافضة لإمرار الموازنة، التي بدأت بحصة الإقليم ثم انبثقت عنها مطالبات ليست ضمن إطار صلاحيات البرلمان كسعر الصرف".
ويختم أن "تلك الكتل رأت أن تعطيل الموازنة بدعوى الخلافات مع إقليم كردستان سيوجه النقمة الشعبية باتجاه البرلمان، لذا وجدت من المطالبة بتغيير سعر صرف الدولار عنواناً كفيلاً بتوجيه الرأي العام لإلقاء اللوم على الكاظمي".
في السياق ذاته، قال عضو اللجنة المالية في البرلمان العراقي، جمال كوجر، في تصريح صحافي، إن "هناك إرادتين في الدولة العراقية، إرادة لا تريد للانتخابات أن تجري ولا لهذه الحكومة أن تنجح، ولا أن تقر الموازنة ولديها 3 حجج، وهي شماعة حصة الإقليم، وسعر صرف الدينار العراقي، وعدم العدالة في التوزيع، وهذه كلها حجج وليست واقعاً وخلافاً حقيقياً".
تعطيل عشرات المشاريع
ويكشف مصدر مطلع على خلافات الكتل بشأن مشروع قانون الموازنة، عن "نحو 70 مشروعاً أُدرج تمويلها في الموازنة العامة للبلاد، وتتطلب أشهراً قليلة كي تنجز، وتمس غالبيتها احتياجات العراقيين بشكل مباشر".
ويضيف المصدر لـ"اندبندنت عربية"، أن تلك المشاريع، تعد "من أبرز الأسباب التي تدفع بعض الكتل إلى تعطيل إمرار الموازنة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبشأن احتمالية حسم قضية التصويت على الموازنة، يفيد المصدر أن "اجتماعاً سيعقد بعد يومين يستثني الكتل المقاطعة للتصويت على الموازنة في محاولة لإمرارها بالأغلبية"، مشيراً إلى أن، زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر "تدخل بقوة وبات يضغط بشكل شخصي لإمرارها".
وكانت اللجنة المالية في البرلمان العراقي، بينت في أكثر من مناسبة أن تغيير سعر صرف الدولار مقابل الدينار ليس من صلاحيات البرلمان، إذ يعد صلاحية حصرية للبنك المركزي ووزارة المالية باعتبارهما من يرسمان السياسة النقدية والمالية في البلاد.
وقال عضو اللجنة النائب محمد الشبكي، في 28 مارس، إن "البرلمان العراقي، ملزم بالتصويت على سعر صرف الدولار كما جاء من قبل الحكومة في مشروع قانون الموازنة، على الرغم من وجود اعتراضات برلمانية كبيرة على هذا السعر، لكن البرلمان لا يمتلك صلاحية التعديل، لأن هذا الأمر يتم حصراً عن طريق الحكومة".
وأضاف في تصريح صحافي، أن "تعديل سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي في مشروع قانون الموازنة، سيؤدي لإجراء كثير من التعديلات على فقرات ومواد القانون، بالإضافة إلى أن أي تعديل سيكون سبباً في ارتفاع عجز الموازنة".
اعتراضات وصلت حد الانتشار المسلح
ولسعر صرف الدولار أمام الدينار حيّز كبير يشغل عديداً من الكتل السياسية خصوصاً تلك المقربة من إيران التي تمتلك أذرعاً مسلحة.
وتبرر تلك الكتل موقفها المطالب بإعادة سعر الصرف إلى ما كان عليه في السابق، بأنه يؤثر بشكل ملحوظ على مستوى معيشة العراقيين ويزيد من نسب الفقر في البلاد.
وكان البنك المركزي العراقي أعلن في 19 ديسمبر (كانون الأول)، رفع سعر الصرف إلى 1450 ديناراً للدولار الواحد، بعد أن كان السعر السابق 1190 ديناراً لكل دولار، الأمر الذي أدى إلى زيادة ملحوظة في أسعار السلع والخدمات.
ووصلت حدود رفض إدراج سعر الصرف الجديد ضمن مشروع قانون الموازنة إلى حد الانتشار المسلح وسط العاصمة بغداد، حيث رفعت حركة "ربع الله" ذات المطالب التي تطالب بها الكتل القريبة من إيران كشرط لإمرار الموازنة، وفي مقدمتها تعديل سعر الصرف والعودة إلى التسعيرة السابقة.
وبالإضافة إلى مطلب تغيير سعر الصرف من قبل كتل شيعية رئيسة على رأسها تحالف "الفتح"، تبرز جملة مطالب أخرى تتعلق بإعادة المفسوخة عقودهم من "هيئة الحشد الشعبي"، والاعتراضات على بنود الاقتراض في الموازنة، فضلاً عن قضايا تتعلق بالتخصيصات المالية للمشاريع، وعقود الطاقة وتفاصيل أخرى.
ولا تتوقف النقاط الخلافية عند حدود الكتل الشيعية والكردية، بل تصل إلى الكتل السنية التي تطالب هي الأخرى بمنح المغيبين رواتب في مشروع الموازنة.
وكانت كتلة "سائرون" البرلمانية التابعة للتيار الصدري، وصفت في بيان، معطلي إمرار الموازنة بأنهم "مجرد أبواق مأجورة وأدوات رخيصة تطبق أجندات لدول خارجية".
تسقيط سياسي
ورد القيادي في تحالف الفتح غضنفر البطيخ، الثلاثاء 30 مارس، على الاتهامات التي توجه للتحالف بوقوف غايات سياسية دفعته لأن يضع شروطاً تعجيزية لتعطيل إمرار الموازنة، بالقول، إن "هذه الاتهامات غير صحيحة وهي مجرد إشاعات تهدف إلى التسقيط السياسي ليس إلا".
وأضاف في تصريحات صحافية، الثلاثاء 30 مارس، أن "تحالف الفتح يمثل جمهور محافظات الوسط والجنوب، ومن واجبه المطالبة بحقوق المواطنين في هذه المحافظات، فضلاً عن وجود مشاريع وفقرات عليها كثير من الملاحظات تستلزم التعديل في الموازنة لورود مخالفات فيها".
وأشار إلى أن "مشروع قانون موازنة سنة 2021، سوف يمرر، بعد تقديم القوى السياسية، بما فيها تحالف الفتح لتنازلات في ما بينها، وإذا لم تمرر الأسبوع الحالي، فقد يكون التمرير خلال الأسبوع المقبل، كحد أقصى".
تعطيل الموازنة أسوأ من تغيير سعر الصرف
وعلى الرغم من حديث عديد من الخبراء الاقتصاديين حول التغيير الأخير في سعر الصرف، بأنه أسهم بشكل ملحوظ في تقليل القدرة الشرائية للعراقيين وزاد من نسب الفقر، إلا أن الحكاية لا تنتهي عند هذا الحد، حيث يبرز جانب آخر، بحسب مراقبين، يتعلق بأن التغيير هذا أسهم في التقليل من عمليات تهريب العملة، فضلاً عن المضاربات التي تقوم بها واجهات اقتصادية لأحزاب وكتل سياسية.
وبالإضافة إلى ذلك، مثّل تغيير سعر الصرف عاملاً رئيساً في زيادة الاحتياطي النقدي في البنك المركزي، الذي شهد تراجعاً كبيراً نتيجة أزمة انخفاض أسعار النفط خلال الأشهر الماضية.
ويقول المتخصص في الشأن الاقتصادي صالح الهماشي، إن "الإنفاق العام في الدولة العراقية يرتبط بشكل مباشر مع قانون الموازنة، حيث لا وجود لأي نشاطات أخرى من شأنها توفير الأموال".
ويوضح لـ"اندبندنت عربية"، أن "تعطيل إقرار الموازنة وفق تلك المعطيات يعد إجراء أسوأ من تغيير سعر الصرف".
وبشأن رفع قيمة الدولار أمام الدينار العراقي، يشير الهماشي، إلى أن تلك الخطوة أيضاً "لم يتم التعاطي معها بمهنية عالية، إذ كان من المفترض أن تتبعها خطوات اقتصادية تجنب الطبقات الفقيرة الآثار الكبيرة لها".
ويستبعد الهماشي إمكانية العودة إلى سعر الصرف السابق في الفترة القريبة، مبيناً أن تغيير سعر الصرف، "حاجة ملحة بالنسبة إلى السياسة النقدية للعراق، خصوصاً أن السعر السابق لا يتناسب وحجم الكتلة النقدية أو النشاط التجاري في البلاد".
ويختم الهماشي، "كان على الحكومة اتخاذ جملة إجراءات للحفاظ على أسعار السلع الأساسية في السوق العراقية، لأنها تمثل سوقاً تجارية وليست صناعية".
في المقابل، يقول المتخصص الاقتصادي دواد عبد زاير، إن "عدم إقرار الموازنة العامة بشكلها الحالي أفضل بكثير من إقرارها، وبالإمكان الاكتفاء بصرف الأموال من خلال قانون الإدارة المالية لتغطية الإنفاق وتسديد الرواتب".
ويوضح لـ"اندبندنت عربية"، أن "القانون يعاني من حضور واضح للتجاذبات السياسية داخله"، مبيناً أن "الموازنة لم تعد من قبل الحكومة بطريقة مهنية، وفي المقابل تعديلات البرلمان لم ترتق إلى مستوى اعتبارها موازنة لبناء اقتصاد رصين".
وتبقى إمكانية إقرار قانون الموازنة في البلاد مرهونة بمدى التوافقات السياسية، التي لا تبدو بوادرها حاضرة حتى اللحظة، إذ تشعبت الخلافات وباتت تصل إلى عديد من البنود التي يصعب حسمها في وقت قريب.